الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إن بناء قاعدة الانطلاق عملية أساسية لنجاح أي عمل يحتاج هذه القاعدة وإلا لصار الجهد هباء لا يفيد، ومن المعلوم أن الإنسان الذي يتمتع بالخلق الكريم قادر على تعليم غيره الخلق والسلوك أما غيره فلا يمكنه ذلك لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
والشخص القوي يهابه الضعاف أما الضعيف فلا قيمة له بين الناس.
والأمة القوية تقود غيرها إلى حيث تريد، هكذا في كل زمان، في عالم الإنسان كما هي في عالم الحيوان.
وقد اهتم الإسلام في بناء قاعدته الصلبة في المدينة المنورة حيث أقامها على عدة أسس تضامنت وتكاملت حتى أنتجت قاعدة الدعوة، ومنطلقها المتين، وأهم ما فعله الإسلام في الناس إيجاد خير أمة للناس وفق مراحل ومواصفات معينة.
أولا: إيجاد الأمة القوية
متميزة بمجموعة من الخصائص ليحافظ على قواها، ويبعدها عن التشرذم والتفكك، والانهيار.
إن تنظيم الأمة يحتاج إلى الاستفادة بكل الإمكانات المتاحة، ووضعها في صورتها الإيجابية المنتجة لتحمي الجهد، والوقت، والطاقات.
إن مجموعة من الناس مهما بلغ عددها لا يمكنها أن تقوم بما تقوم به الجماعة، ولا تتمكن من أداء دور الأمة مع الإسلام أو مع أي هدف آخر.
ودور الأمة مع الإسلام عظيم ومهم حدده الله تعالى بقوله سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} 1 وبقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} 2.
1 سورة البقرة: 143.
2 سورة آل عمران: 110.
لقد اهتم النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة بتنظيم الأمة فآخى بين رعاياها، وجعل الأخوة حقيقة مستمرة على الزمن كله لتكوين القاعدة الصلبة المطلوبة.
إن أخوة المؤمنين لم تكن من أجل الاشتراك في نشاط ما وترك ما عداه، أو التوحيد في الولاء لفرد وفقط، وإنما كانت الأخوة في الله، وتحت وشيجة العقيدة، إنها ليست علاقات الدم، ولا علاقات الأرض، ولا علاقات الجنس، ولا علاقات التاريخ، ولا علاقات اللغة، ولا علاقات الاقتصاد، ليست هي القرابة، وليست هي الوطنية، وليست هي القومية، وليست هي المصالح الاقتصادية.
إنما هي علاقة العقيدة الإيمانية التي تجمع بين الراعي والرعية في اتجاه واحد، وتأخذ روابطها من الإسلام وتجعل كل فرد مسئولا عن حقوق هذه الأخوة أمام الله تعالى، وأمام الناس أجمعين في إيثار خال من الأنانية، وفي خلق بعيد عن الفوضى والظلم.
ولهذا وصف الله سبحانه وتعالى هذا الجيل الأول الذي طبق الأخوة الإيمانية بكل تجرد وصدق بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1.
يروي الإمام أحمد عن أنس وصفًا لآثار هذه المؤاخاة على لسان المهاجرين أنفسهم حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل، ولا أحسن بذلا من كثير من هؤلاء، لقد كفونا المؤنة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله، قال صلى الله عليه وسلم:"لا ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم"2.
وهكذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أعضاء هذا التجمع الوليد.. أي أنه حول هؤلاء الأفراد المفككين إلى مجتمع متكافل، تكون رابطة العقيدة فيه مقدمة على رابطة الدم والنسب،
1 سورة الأنفال: 74-75.
2 مسند أحمد.
ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية القبلية، ويصبح الولاء فيه للإسلام وحده، وبهذا تتحقق سائر العلاقات وتنمو تحت مظلة رابطة العقيدة والإيمان.
ولقد تحقق الغرض من هذا الإجراء الفذ، وبقي أثره محركًا في حياة الصحابة حتى الوفاة فهذا بلال رضي الله عنه كان يقول في عهد عمر عن أخوته مع أبي رويحة: لا أفارقه أبدًا للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقدها بينه وبيني.
إن وجود الأمة الإسلامية القوية هي أكبر سند لحركة الدعوة؛ لأن المسلمين بعد تحقيقها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عالم الواقع لم يتعرضوا لعدوان، ولم يمنعهم الهمج والأراذل من الحركة والانطلاق.
وليس من تنظيم الجماعة المؤمنة تشتت الأفراد في اتجاهات مادية متعددة متعارضة لأن هذا في الحقيقة تفريق للأمة، وتضييع لجهودها، وذلك التشتت يظهر كثيرًا حينما يعمل الأفراد لعدة غايات متعارضة.
لقد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهجرة سائر المؤمنين إلى المدينة لتحقيق هذه القاعدة الواحدة القوية، ولذلك يقول الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 1.
والآية واضحة في وجوب الهجرة والتجمع في المدينة لأن المسلمين لو عاشوا أفرادًا حيث هم لتكالبت عليهم الأفاعي، وقضى عليهم الطغاة، ولذلك كانت هجرتهم إلى رسول الله لتكوين أمة مسلمة تعيش الإسلام، وتقدم نموذجًا عمليًا لتعاليمه أمام الناس.
وعمل ثانيًا على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية العملية؛ لأن الإسلام لا تهمه أمة فارغة القلب والضمير لأنها تكون حينئذ ضعفًا ووهنا لا يسمن ولا يغني من جوع.
1 سورة الأنفال: 72.