الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعا: غزوة تبوك والتصدى لعدوانية الرومان
استعداد المسلمين للغزوة
…
رابعًا: غزوة تبوك والتصدي لعدوانية الرومان
لم يقبل الرومان انتصار المسلمين، وتوحد الجزيرة تحت راية الإسلام وكبر عليهم أن تظهر قوة كبرى مجاورة لهم، فجهزوا جموعا كثيرة بالشام عند حلفائهم الغساسنة، وأرادوا غزو المسلمين في ديارهم، والقضاء على دولتهم الناشئة فكان أن جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم غازيًا في "تبوك".
والحديث عن غزوة تبوك يتطلب النقاط التالية:
1-
استعداد المسلمين للغزوة:
علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يعمل له الرومان فجهز المسلمين وأعد العدة وكانت غزوة تبوك.
وتبوك موضع بين الحجر وأول الشام، وإليها كانت غزوة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وقعت هذه الغزوة في حر شديد، ومع قلة أموال المسلمين ولذلك سميت "غزوة العسرة".
ونظرًا لبعد مسافة تبوك عن المدينة، وللظروف التي أحاطت بها صرح الرسول صلى الله عليه وسلم بجهة الغزوة على غير عادته ليستعد الصحابة لها، وليكونوا على بينة من المشاق التي سيتحملونها في خروجهم.
ندب الرسول صلى الله عليه وسلم أهل المدينة للخروج إلى تبوك، وأرسل إلى القبائل وإلى مكة يستنفرهم إلى عدوهم فبعث بريدة بن الحصيب وأمره أن يبلغ الفرع، وبعث أبا رهم الغفاري إلى قومه، وأبا واقد الليثي إلى قومه، وأبا جعدة الضمري إلى قومه بالساحل، ورافع بن مكيث بن جندب بن جنادة إلى جهينة، ونعيم بن مسعود إلى أشجع، وبديل بن ورقاء وعمرو بن سالم وبسر بن سفيان إلى بني كعب بن عمرو، والعباس بن مرداس إلى بني سليم.
وحض على الجهاد ورغب فيه، وأمر بالصدقة فحملت صدقات كثيرة، وأول من
حمل صدقته أبو بكر الصديق رضي الله عنه، جاء بماله كله أربعة آلاف درهم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل أبقيت لبناتك شيئًا"؟.
قال: أبقيت لهم الله ورسوله.
وجاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه بنصف ماله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل أبقيت شيئًا"؟.
قال: نعم، نصف مالي جئت به.
وبلغ عمر ما جاء به أبو بكر رضي الله عنه فقال: ما استبقنا إلى خير إلا سبقني إليه.
وحمل العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه مالا يقال: إنه تسعون ألفًا.
وحمل طلحة بن عبيد الله مالا.
وحمل عبد الرحمن بن عوف مائتي أوقية.
وحمل سعد بن عبادة ومحمد بن مسلمة مالا.
وتصدق عاصم بن عدي بتسعين وسقًا تمرًا.
وجهز عثمان بن عفان رضي الله عنه ثلث ذلك الجيش، فكان من أكثرهم نفقة، فلقد كفلت نفقته مئونة ثلث الجيش حتى إن كان ليقال: ما بقيت له حاجة!
جاء عثمان رضي الله عنه بألف دينار ففرغها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل صلى الله عليه وسلم يقبلها ويقول:"ما ضر عثمان ما فعل هذا اليوم". قالها مرارًا.
ورغب صلى الله عليه وسلم أهل الغنى في الخير والمعروف، فتبادل المسلمون في ذلك حتى إن الرجل ليأتي بالبعير إلى الرجل والرجلين فيقول: هذا البعير بينكما تعتقبانه، ويأتي الرجل بالنفقة فيعطيها بعض من يخرج، وأتت النساء بكل ما قدرن عليه، فكن يلقين في ثوب مبسوط بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، المسك، والمعاضد، والخلاخل، والأقرطة، والخواتيم، والخدمات.
وكان الناس في حر شديد، وحين طابت الثمار، وحسنت الظلال، وبدأ الناس يحبون المقام، ويكرهون الشخوص أخذهم صلى الله عليه وسلم بالجد، ودعاهم إلى الخروج وعسكر بثنية الوداع.
تجمع المسلمون بثنية الوداع حتى بلغ عددهم قريبًا من أربعين ألفًا فيهم كثير من
الأعراب، وعبد الله بن أبي وأشياعه من المنافقين.
وكان لا بد من حمولة للمجاهدين لطول السفر، وصعوبة الطريق، وظهر واضحًا أن الذي لا يجد ما يحمله لن يغزو، وله عذره، وهنا جاء عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يشكون له عدم وجود ما يركبون، وأخذوا في البكاء حزنًا على فوت الجهاد منهم.
وهم سبعة: أبو ليلى المازني، وسلمة بن صخر الزرقي، وثعلبة بن غنمة السلمي، وعلبة بن زيد الحارثي، والعرباض بن سارية السلمي، وهرمي بن عمرو المزني، وسالم بن عمير، جاءوا يستحملون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا أهل حاجة.
فقال لهم صلى الله عليه وسلم: "لا أجد ما أحملكم عليه".
فولوا يبكون، فلقي اثنان منهما يامين بن عمير بن كعب فقال: ما يبكيكما؟
قالا: جئنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا فلم نجد عنده ما يحملنا عليه، وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج، ونحن نكره أن تفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاهما ناضحًا له، فارتحله اثنان منهم، وزود كل واحد صاعين من تمر.
وحمل العباس بن عبد المطلب منهم رجلين.
وحمل عثمان بن عفان منهم ثلاثة1.
وأبطأ أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل بعيره، وكان الحر شديدًا فخرج وحده، حتى لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم نصف النهار وقد بلغ منه العطش.
فقال له صلى الله عليه وسلم: "مرحبًا بأبي ذر! يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده، ما خلفك"؟.
فأخبره أبو ذر رضي الله عنه خبر بعيره.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إن كنت لمن أعز أهلي عليّ تخلفًا! لقد غفر الله لك بكل خطوة ذنبًا إلى أن بلغتني".
يروي ابن هشام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مضى سائرًا فجعل يتخلف عنه الرجل فيقولون: يا رسول الله تخلف فلان، فيقول: "دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله تعالى بكم،
1 إمتاع الأسماع ص446.
وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه". حتى قيل: يا رسول الله! قد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: "دعوه، فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فلقد أراحكم الله منه". وتلوم أبو ذر على بعيره، فلما أبطأ عليه، أخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيًا، ونزل رسول الله في بعض منازله، فنظر ناظر من المسلمين فقال: يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا ذر". فلما تأمله القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رحم الله أبا ذر يمشي وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده" 1.
وولى رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة "سباع بن عرفطة رضي الله عنه" وخلف معه علي بن أبي طالب على أهله، وعقد الألوية والرايات، فدفع اللواء الأعظم لأبي بكر، والراية الكبرى للزبير بن العوام، وأمر صلى الله عليه وسلم كل من خرج معه باتخاذ لواء أو راية.
وأخذ الجيش الإسلامي يتحرك من ذات الثنية باتجاه الشام.
وهنا برز أصحاب النفاق وانسحبوا من ذي الثنية ورجعوا إلى المدينة، وعلى رأسهم عبد الله بن أبي وأشياعه.
وقالوا: يحسب محمد صلى الله عليه وسلم أن قتال بني الأصفر -الروم- للعب؟
ونافق آخرون وهم الأعراب الذين أخذوا يتخلفون عن الجيش معتذرين بأسباب واهية كاذبة.
وكان تخلفهم رحمة بالمؤمنين الصادقين، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم كلما أخبره أصحابه بتخلف فلان يقول:"دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه".
وسار الجيش إلى تبوك، بعدما تخلص من المنافقين وضعاف الإيمان، وقد بلغ عدده ثلاثين ألفًا.
وعندما وصل المسلمون إلى "ذي خشب" وهو جبل يقع شمال المدينة قريبًا منها أخذ صلى الله عليه وسلم يصلي والمسلمون معه الظهر والعصر والمغرب والعشاء جمعًا، يؤخر الظهر حتى تدبر
1 سيرة النبي ج2 ص523.
الشمس ويصلي العصر جمع تقديم، ويصلي المغرب مع العشاء وقت العشاء جمع تأخير واستمر صلى الله عليه وسلم على ذلك حتى رجع من تبوك.
لما وصل الجيش إلى تبوك جمع النبي صلى الله عليه وسلم جنوده، وخطب فيهم وقال صلى الله عليه وسلم:
"أيها الناس! أما بعد فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم، وخير السنن سنن محمد، وأشرف الحديث ذكر الله، وأحسن القصص هذا القرآن، وخير الأمور عواقبها، وشر الأمور محدثاتها، وأحسن الهدي هدي الأنبياء، وأشرف القتل قتل الشهداء، وأعمى الضلالة الضلالة بعد الهدى، وخير الأعمال ما نفع، وخير الهدى ما اتبع، وشر العمى عمى القلب، واليد العليا خير من اليد السفلى، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
وشر المعذرة حين يحضر الموت، وشر الندامة يوم القيامة، ومن الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرًا، ومنهم من لا يذكر الله إلا هجرًا، ومن أعظم الخطايا اللسان الكذوب، وخير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، ورأس الحكمة مخافة الله، وخير ما ألقي في القلب اليقين، والارتياب من الكفر.
النياحة من عمل الجاهلية، والغلو من جمر جهنم، والشكر وقاية من النار، والشعر من إبليس، والخمر جماع الإثم، والنساء حبالة إبليس، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وشر المال أكل مال اليتيم.
والسعيد من وعظ بغيره، والشقي من شقي في بطن أمه، وإنما يصير أحدكم إلى موضع أربع أذرع، والأمر إلى آخره، وملاك العمل خواتمه، وشر الرؤيا رؤيا الكذب، وكل ما هو آت قريب، وسباب المؤمن فسوق، وقتل المؤمن كفر، وأكل لحمه من معصية الله، وحرمة ماله كحرمة دمه، ومن يتأل على الله يكذبه، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يكظم الغيظ يأجره الله، ومن يصبر على الرزية يعوضه الله ومن يتتبع السمعة يسمع الله به، ومن يصبر يضاعف الله له، ومن يعص الله يعذبه، اللهم اغفر لي ولأمتي، اللهم اغفر لي ولأمتي أستغفر الله لي ولكم".
وطاف على ناقته بالناس وهو يقول: "يا أيها الناس! يد الله فوق يد المعطي،
ويد المعطِي الوسطى ويد المعطَى السفلى، أيها الناس استغنوا ولو بحزم الحطب، اللهم هل بلغت! اللهم هل بلغت! اللهم هل بلغت! ".
وجلس بتبوك في نفر من أصحابه وهو سابعهم، فجاء رجل من بني سعد هذيم فسلم فقال:"اجلس".
فقال: يا رسول الله! أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله.
فقال: "أفلح وجهك".
ثم قال: "يا بلال، أطعمنا"!. فبسط نطعًا، ثم أخرج من حميت له خرجات من تمر معجون بسمن وأقط، ثم قال صلى الله عليه وسلم:"كلوا". فأكلوا حتى شبعوا.
فقال الرجل: يا رسول الله إني كنت لآكل هذا وحدي!!
فقال صلى الله عليه وسلم: "الكافر يأكل في سبعة أمعاء والمؤمن يأكل في معي واحد".
ثم جاء من الغد متحينًا الغداء ليزداد في الإسلام يقينًا، فإذا عشرة حوله عليه السلام فقال صلى الله عليه وسلم:"هات أطعمنا يا بلال"!. فجعل يخرج من جراب تمرًا بكفه قبضة قبضة، فقال:"أخرج ولا تخف من ذي العرش إقتارًا"!. فجاء بالجراب فنثره، فحزره الرجل مدين، فوضع صلى الله عليه وسلم يده على التمر ثم قال:"كلوا باسم الله". فأكل القوم وأكل الرجل وكان صاحب تمر، حتى ما يجد له مسلكًا، وبقي على النطع مثل الذي جاء به بلال كأنهم لم يأكلوا منه تمرة واحدة.
ثم عاد الرجل من الغد، وعاد نفر، فكانوا عشرة أو يزيدون رجلا أو رجلين، فقال صلى الله عليه وسلم:"يا بلال أطعمنا". فجاء بذلك الجراب بعينه فنثره، ووضع صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال:"كلوا باسم الله". فأكلوا حتى شبعوا، ثم رفع مثل الذي صب، ففعل مثل ذلك ثلاثة أيام1.
وعسكر النبي صلى الله عليه وسلم بجنوده في "تبوك" عشرين يومًا حتى فتح الله عليهم فعادوا إلى المدينة بلا قتال وبلا حرب.
1 إمتاع الأسماع ص460.