الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البيت وعليه ثلاثمائة وستون صنمًا، فجعل يطعنها بالقوس، ويقرأ قوله تعالى:{وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} 1 وقوله تعالى: {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} 2.
وأخذت الأصنام تتساقط على وجوهها كلما ضربها رسول الله أو أشار إليها.
وكان طوافه على راحلته، ولم يسع بين الصفا والمروة لأنه لم ينو العمرة يومئذ، فلما أتم طوافه صلى الله عليه وسلم دعا عثمان بن طلحة، وأخذ منه مفتاح الكعبة، فأمر بها ففتحت، فدخلها، فرأى فيها الصور، ورأى فيها صورة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام يستقسمان الأزلام، فقال: قاتلهم الله والله ما استقسما بها قط، ورأى في الكعبة حمامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت3.
1 سورة الإسراء: 81.
2 سورة سبأ: 49.
3 المغازي ج2 ص832، 834.
5-
مكة تحت القيادة الإسلامية:
تهدمت الأصنام، وتطهرت الكعبة من ألوان الشرك، والضلال، وبدأ عهد جديد في مكة، علا فيه الإسلام، وخضع الجميع لحكم الله تعالى.
وأخذ صلى الله عليه وسلم يصرف أمور الناس والحياة، بوحي الله تعالى بعد استقرار الأمر لعشر بقين من رمضان سنة ثمان.
وأقام صلى الله عليه وسلم في قبة من أدم أقامها له أبو رافع عند الحجون، وكان صلى الله عليه وسلم يأتي منها إلى المسجد عند كل صلاة.
وبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجًا، ومنهم كان يستجير بمسلم قبل أن يعلن إسلامه من شدة خوفه.
وتحرك صلى الله عليه وسلم من الحجون إلى الحرم أول مرة ضحى وقد اصطف الناس، واصطحب
أبا بكر، وابن أم مكتوم، فلما انتهى صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة استلم الركن وكبر، فكبر الناس لتكبيره حتى ارتجت مكة كلها.
ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناحية من المسجد والناس حوله، فأتى بدلو من زمزم فغسل وجهه، فما يقع منه قطرة إلا في يد إنسان، إن كانت قدر ما يحسوها حساها، وإلا تمسح بها، والمشركون ينظرون، فقالوا: ما رأينا ملكًا قط أعظم مما رأينا اليوم.
وجاءته قريش فأسلموا، وقالوا: يا رسول الله، اصنع بنا صنع أخ كريم.
فقال صلى الله عليه وسلم: "أنتم الطلقاء مثلي ومثلكم كما قال يوسف لإخوته: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} 1 ".
ثم اجتمع الناس لمبايعته صلى الله عليه وسلم، فجلس على الصفا، وجلس عمر بن الخطاب أسفل مجلسه وجلس ابن أم مكتوم بين يديه فبايعوه على السمع والطاعة لله ولرسوله فيما استطاعوا وسألوه عن الهجرة إلى المدينة المنورة.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح".
وتجرد الرجال من الأزر، ثم أخذوا الدلاء فغسلوا ظهر الكعبة وبطنها حتى انبعج الوادي من الماء، وأزالوا ما كان فيها من عمل الجاهلية فلم يدعوا فيها صورة ولا أثرًا من آثار المشركين إلا محوه.
وجاء عثمان بن طلحة بالمفتاح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ رأس الثنية، فبعث صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه من البطحاء، ومعه عثمان بن طلحة ليفتح البيت، وأمره أن لا يدع صورة إلا محاها، ولا تمثالا إلا هدمه، ففعل عمر ذلك وترك صورة إبراهيم عليه السلام حتى محاها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ودخل صلى الله عليه وسلم الكعبة، ومعه أسامة بن زيد، وبلال، وعثمان بن طلحة، فمكث فيها مدة وصلى ركعتين ثم خرج والمفتاح في يده، ووقف على الباب خالد بن الوليد يذب الناس عنه حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف على باب البيت وأخذ بعضادتيه، وأشرف على الناس وفي يده المفتاح، ثم جعله في كمه، وقال وقد جلس الناس:
1 سورة يوسف: 92.
"الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، يا معشر قريش، ماذا تقولون؟ وماذا تظنون"؟. قالوا: نقول خيرًا ونظن خيرًا، أخ كريم وابن أخ كريم، وقد قدرت.
فقال صلى الله عليه وسلم: "فإني أقول كما قال أخي يوسف: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ".
ألا إن كل ربا في الجاهلية، أو دم، أو مال، أو مأثرة، فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج، ألا وفي قتيل العصا والسوط الخطأ شبه العمد الدية مغلظة مائة ناقة، منها أربعون في بطونها أولادها.
إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتكثرها بآبائها، كلكم لآدم وآدم من تراب.
وأكرمكم عند الله أتقاكم، ألا إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد كائن بعدي، ولم تحل لي إلا ساعة من النهار، ألا لا ينفر صيدها، ولا يعضد عضاها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد ولا يختلى خلاها".
فقال العباس رضي الله عنه: إلا الإذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقبور، وظهور البيوت، فسكت ساعة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "إلا الإذخر فإنه حلال"1.
"ولا وصية لوارث، وأن الولد للفراش وللعاهر الحجر، ولا يحل لامرأة تعطي من مالها إلا بإذن زوجها، والمسلم أخو المسلم، والمسلمون إخوة، والمسلمون يد واحدة على من سواهم، تتكافأ دماؤهم، يرد عليهم أقاصهم، ويعقد عليهم أدناهم ومشدهم على مضعفهم، ومسيرتهم على قاعدهم، ولا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهد في عهده، ولا يتوارث أهل ملتين مختلفتين، ولا جلب ولا جنب، ولا تؤخذ صدقات المسلمين إلا في بيوتهم وبأفنيتهم، ولا تنكح المرأة على عمتها وخالتها،
1 صحيح البخاري كتاب المغازي ج7 ص21.
والبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، ولا تسافر امراة مسيرة ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم، ولا صلاة بعد العصر وبعد الصبح، وأنهاكم عن صيام يومين: يوم الأضحى، ويوم الفطر، وعن لبستين، لا يحتجب أحدكم في ثوب واحد يفضي بعورته إلى السماء، ولا يشتمل الصماء، ولا إخالكم إلا وقد عرفتموها"1.
ثم نزل صلى الله عليه وسلم ومعه المفتاح، فتنحى ناحية من المسجد فجلس فقال:"ادعوا إليّ عثمان بن طلحة". فأقبل عثمان.
فقال صلى الله عليه وسلم: "خذوها يا بني أبي طلحة تالدة خالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم، يا عثمان إن الله استأمنكم على بيته، فكلوا بالمعروف"2.
وقال لخالد بن الوليد رضي الله عنه: "لم قاتلت وقد نهيت عن القتال"؟.
فقال خالد: هم يا رسول الله بدءونا بالقتال، ورشقونا بالنبل، ووضعوا فينا السلاح وقد كففت ما استطعت، ودعوتهم إلى الإسلام وأن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فأبوا، حتى إذا لم أجد بدًا قاتلتهم، فظفرنا الله عليهم وهربوا في كل وجه يا رسول الله.
فقال صلى الله عليه وسلم: "فكف عن الطلب".
قال: قد فعلت يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وسلم: "قضاء الله خير".
ثم قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر المسلمين، كفوا السلاح، إلا بني خزاعة عن بني بكر فلهم إلى صلاة العصر". فضربوهم ساعة، وهي الساعة التي أحلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تحل لأحد قبله.
وقام صلى الله عليه وسلم خطيبًا في اليوم الثاني بعد قتل جندب بن الأدلع فقال:
"أيها الناس! إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، ويوم خلق الشمس والقمر ووضع هذين الجبلين، فهي حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا، ولا يعضد فيها شجرًا، لم تحل لأحد
1 المغازي ج2 ص835-837.
2 المرجع السابق ج2 ص838.
كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي ولم تحل لي إلا ساعة من نهار، ثم رجعت حرمتها بالأمس، فليبلغ شاهدكم غائبكم، فإن قال قائل، قد قاتل فيها رسول الله، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحلها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل، فقد والله كثر إن نفع، وقد قتلتم هذا القتيل، والله لأدينه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بالخيار: إن شاءوا فدم قتيلهم، وإن شاءوا فعقله" 1.
وجاء الظهر، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا أن يؤذن فوق ظهر الكعبة، وكانت قريش فوق رءوس الجبال، وقد فر وجوههم وتغيبوا خوفًا من أن يقتلوا، فلما أذن بلال ورفع صوته كأشد ما يكون أمنوا ونزلوا.
وأتى يعلى بن منية بأبيه فقال: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بل أبايعه على الجهاد، فقد انقضت الهجرة".
وكان سهيل بن عمرو أغلق عليه بابه، وبعث إلى ابنه عبد الله بن سهيل أن يأخذ له أمانًا، فأمنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه إنه لميكن له بنافع". فخرج عبد الله إلى أبيه فأخبره.
فقال سهيل: كان والله برًا صغيرًا وكبيرًا، فخرج وشهد حنينًا، وأسلم بالجعرانة.
وهرب هبيرة بن أبي وهب زوج أم هانئ بنت أبي طالب ومعه عبد الله بن الزبعرى بن سهم القرشي السهمي إلى نجران، فبعث حسان بن ثابت بشعر إلى ابن الزبعرى فجاء، ولما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه قال:"هذا ابن الزبعرى ومعه وجه فيه نور الإسلام". فأسلم ومات ابن هبيرة بنجران مشركًا.
وهرب حويطب بن عبد العزى بن لؤي القرشي العامري، فأمنه أبو ذر رضي الله عنه ومشى معه، وجمع بينه وبين عياله.
وأسلمت هند بنت عتبة، وأم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة ابن أبي جهل، والبغوم بنت المعذل امرأة صفوان بن أمية، وفاطمة بنت الوليد بن المغيرة.
1 المغازي ج2 ص844.
وهند بنت منبه بن الحجاج أم عبد الله بن عمرو بن العاص، في عشر نسوة من قريش.
فأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأبطح، وعنده زوجتاه وفاطمة ابنته، في نساء من نساء بني عبد المطلب، فبايعنه.
وكانت بيعة النساء عقيب بيعة الرجال عند الصفا، ورؤيت فيهن هند وهي متنكرة لأجل صنيعها بحمزة، وكان زوجها أبو سفيان حاضرًا، فعرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"إنك لهند".
فقالت: أنا هند، فاعف عما سلف.
فبايعهن عمر رضي الله عنه واستغفر لهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلبت أم حكيم أمانًا لعكرمة وقد هرب إلى اليمن، فخرجت إليه حتى قدم، فلما دنا من مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يأتيكم عكرمة ابن أبي جهل مؤمنًا مهاجرًا، فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ إليه". فلما رآه صلى الله عليه وسلم وثب إليه فرحًا فوقف، ومعه امرأته منتقبة.
فقال: يا محمد إن هذه أخبرتني أنك أمنتني.
فقال صلى الله عليه وسلم: "صدقت، فأنت آمن". فأسلم.
وهرب صفوان بن أمية بن جمح القرشي الجمحي، فأخذ له عمير بن وهب بن حذافة أمانًا، وخرج في إثره حتى رجع، وشهد هوازن كافرًا، وأسلم بالجعرانة.
وكان عبد الله بن سعد بن أبي سرح ممن أهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه يوم الفتح، فأتى به عثمان بن عفان رضي الله عنه، وسأله أن يهبه له، فوهب له جرمه وأسلم.
وأهدر صلى الله عليه وسلم دم الحويرث بن نقيذ بن بجير بن عبد بن قصي، فضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه عنقه وكان مؤذيًا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وأهدر دم هبار بن الأسود بن عبد العزى بن قصي الأسدي القرشي، إلا أنه أسلم وحسن إسلامه.
وأخرج أبو برزة الأسلمي عبد الله بن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتله". فأخرج أبو برزة عبد الله بن خطل وقتله بين الركن والمقام
وعن السائب بن يزيد قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج عبد الله بن خطل من بين أستار الكعبة فقتله صبرًا.
ثم قال: "لا يقتل أحد من قريش بعد هذا صبرًا".
وقتل مقيس بن صبابة نميلة بن عبد الله الليثي رآه المسلمون بين الصفا والمروة فقتلوه بأسيافهم.
ولما قتل النفر الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتلهم، سمع النوح عليهم.
وجاء أبو سفيان بن حرب فقال: فداك أبي وأمي، البقية في قومك.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل قريش صبرًا بعد اليوم". يعني على الكفر.
وأمر صلى الله عليه وسلم بقتل وحشي، ففر إلى الطائف حتى قدم في وفدهم فأسلم.
فقال له صلى الله عليه وسلم: "غيب عني وجهك". فكان إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم توارى عنه.
واستسلف صلى الله عليه وسلم من عبد الله بن أبي ربيعة أربعين ألف درهم فأعطاه، فردها من غنائم هوازن.
وقال: "إنما جزاء السلف الحمد والأداء".
وقال: "بارك الله لك في مالك وولدك".
واستقرض من صفوان بن أمية خمسين ألف درهم فأقرضه، واستقرض من حويطب بن عبد العزى أربعين ألف درهم، فكانت ثلاثين ومائة ألف قسمها بين أهل الضعف، فأصاب الرجل خمسين درهمًا وأقل وأكثر، وبعث من ذلك إلى بني جذيمة.
وأهدي له يومئذ راوية خمر.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرمها". فسارَّ الرجل المهدي غلامه: اذهب بها إلى الحزورة، فبعها.
فقال صلى الله عليه وسلم: "بم أمرته"؟.
قال: ببيعها.
قال صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها". ففرغت بالبطحاء.
ونهى يومئذ عن ثمن الخمر، وثمن الخنزير، وثمن الميتة، وثمن الأصنام، وحلوان الكاهن.
وقيل له يومئذ: ما ترى في شحوم الميتة يدهن بها السقاء؟
قال صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله يهود، حرم عليهم الشحوم فباعوها، فأكلوا ثمنها".
وقال يومئذ، وهو بالحزورة:"والله إنك لخير أرض الله إليّ ولولا أني أخرجت منك ما خرجت".
وهبط ثمانون من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، من جبل التنعيم عند صلاة الفجر فأخذهم سلمًا فعفا عنهم، ونزل فيهم:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} 1.
وأتى بشارب فضربوه بما في أيديهم، فضرب بالسوط، وبالنعل، وبالعصا، وحثا عليه النبي صلى الله عليه وسلم التراب.
وجاء جبر غلام بني عبد الدار، وكان قد أسلم وكتم إسلامه، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ثمنه لسيده وأعتقه.
وقال رجل يومئذ: إني نذرت أن أصلي في بيت المقدس إن فتح الله عليك مكة.
فقال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده، لصلاة ها هنا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، من البلدان".
وقالت ميمونة أم المؤمنين رضي الله عنها: يا رسول الله، إني جعلت على نفسي، إن فتح الله عليك مكة، أن أصلي في بيت المقدس.
فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تقدرين على ذلك، ولكن ابعثي بزيت يستصبح لك فيه، فكأنك أتيتيه".
وكانت ميمونة تبعث إلى بيت المقدس كل سنة بمال ليشتري به زيت يستصبح به حتى ماتت فأوصت بذلك.
وأهدت هند بنت عتبة بعد إسلامها هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالأبطح، مع مولاة لها فانتهت الجارية إلى خيمته صلى الله عليه وسلم، فسلمت واستأذنت فأذن لها فدخلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أم سلمة وميمونة ونساء بني عبد المطلب.
فقالت: إن مولاتي أرسلت إليك بهذه الهدية، وهي معتذرة إليك، وتقول: إن
1 سورة الفتح: 24.
غنمها اليوم قليلة الوالدة.
فقال صلى الله عليه وسلم: "بارك الله لكم في غنمكم، وأكثر والدتها". فسرت هند لما أخبرتها مولاتها بذلك، ورأوا من كثرة غنمهم ووالدتها ما لم يكن قبل ولا قريبًا منه.
وكانت هند تقول: هذا بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وبركته.
وأتته إحدى نساء بني بكر، إما خالة أو عمة، بهدية طعام وهو بالأبطح فعرفها ودعاها إلى الإسلام فأسلمت، وسألها عن حليمة السعدية فأخبرته بوفاتها رضي الله عنها فذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم.
وقالت له: أخواك وأختاك محتاجون فأمر لهم صلى الله عليه وسلم بكسوة وجمل ومائتي درهم.
فقالت: نعم والله المكفول كنت صغيرًا، ونعم المرء كانت كبيرًا، عظيم البركة.
وأخذ أهل مكة ومن يقدم عليهم يأتي إليه صلى الله عليه وسلم يبايعه، ويسأله حاجته، ويتعلم ما يحتاج إليه في أمور دينه الذي آمن به.
وكان صلى الله عليه وسلم يذكر أهل مكة بما منّ الله عليهم بالإسلام، ويعرفهم بضلال ما كانوا فيه ليزدادوا إيمانًا، ولتشتد براءتهم مما كانوا فيه قبل الهدى والرشاد.
من ذلك قوله لعثمان بن طلحة حين أتى به ليعطيه مفتاح الكعبة: "ألم أقل لك يا عثمان لعلك سترى هذا المفتاح يومًا بيدي أضعه حيث شئت"؟.
فقال: بلى أشهد أنك رسول الله.
وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة بعد فتحها مدة تقع بين اثني عشر وعشرين يومًا على اختلاف الروايات، انطلق خلالها لتطهير مكة وحواليها من كافة صور الأصنام والأوثان على كثرتها وتنوعها، كما قام انطلاقًا من مكة بغزوتي حنين والطائف، وبذلك أسلمت الجزيرة كلها1.
1 راجع في أحداث الفتح سيرة ابن هشام، والطبقات، والمغازي، وزاد المعاد، وإمتاع الأسماع والبداية والنهاية
…
إلخ.