الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: بعث الرجيع
والرجيع بفتح الراء المشددة وكسر الجيم اسم ماء لهذيل يقع بين مكة وعسفان بأرض الحجاز، وسمي البعث به لحدوث الوقعة عنده.
وسبب هذه الوقعة أن نفرًا من القارة، وعضل1، وهما بطنان من بطون الهون بن خزيمة بن مدركة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا أن فيهم إسلامًا، وطلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يعلمهم القرآن الكريم، ويفهمهم الإسلام، فبعث لهم الرسول صلى الله عليه وسلم سرية مؤلفة من عشرة رجال، وأمر عليهم عاصم بن ثابت رضي الله عنه فانطلقوا بهم حتى كانوا بين عسفان ومكة.
وهنا غدر القوم بهم، واستصرخوا عليهم النضر وحيًا من هذيل ليغدروا بهم معهم فأتوهم بقريب من مائة رام، تتبعوا آثار أفراد السرية حتى لحقوا بهم عند "فدفد" فلجأ عاصم ومن معه إليها، وأقاموا بها حتى لحقوا بهم.
وجاء الرماة فأحاطوا بعاصم ومن معه وقالوا لهم: لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلا.
فقال عاصم: أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر، اللهم أخبر عنا رسولك، فقاتلوهم ولم يستسلموا واستمر الرمي حتى قتل عاصم مع سبعة نفر من أصحابه.
وبقي خبيب، وزيد، ورجل آخر، فأعطوهم العهد والميثاق، فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم وربطوهم بها.
فقال الرجل الثالث: هذا أول الغدر، وأبى أن يصحبهم فجروه، وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه.
وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة.
فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيب هو الذي قتل أباهم الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله خرجوا به من الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين، فتركوه فصلاهما فلما سلم قال: والله لولا إن تقولوا: أن ما بي جزع من الموت لزدت، وكان أول من سن الركعتين عند القتل، ثم قال: اللهم
1 القارة بتخفيف الراء وعضل بضم العين وفتحها وفتح الضاد.
أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تبق منهم أحدًا1 وأخذ يقول:
لقد أجمع الأحزاب حولي وألبوا
…
قبائلهم واستجمعوا كل مجمع
وقد قربوا أبناءهم ونساءهم
…
وقربت من جذع طويل ممنع
إلى الله أشكو غربتي بعد كربتي
…
وما أرصد الأحزاب لي عند مضجعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي
…
فقد بضعوا لحمي وقد يأس مطعمي
وقد خيروني الكفر والموت دونه
…
فقد ذرفت عيناي من غير مجزع
وما بي حذار الموت إني لميت
…
وإني إلى ربي إيابي ومرجعي
ولست أبالي حين أقتل مسلمًا
…
على أي شق كان في الله مضجعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
…
يبارك على أوصال شلو ممزع
فلسلت بمبد للعدو تخشعًا
…
ولا جزعًا إني إلى الله مرجعي
ولما صلبوه، وأرادوا قتله قال له أبو سفيان: أيسرك أن محمدًا عندنا نضرب عنقه، وأنك في أهلك؟
فقال: لا والله ما يسرني أني في أهلي وأن محمدًا في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه ثم صلبوه ووكلوا به من يحرس جثته، فجاء عمرو بن أمية الضمري، فاحتمله بخدعة ليلا فذهب به فدفنه، وكان الذي تولى قتل خبيب هو عقبة بن الحارث2.
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية فقتله بأبيه أمية بن خلف3.
وبعثت قريش إلى عاصم ليؤتوا بشيء من جسده يعرفونه، وكان عاصم قتل عظيمًا من عظمائهم يوم بدر، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر "الزنابير" فحمته من رسلهم فلم يقدروا منه على شيء، وكان عاصم أعطى الله عهدًا أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركًا، وكان عمر لما بلغه خبره يقول: يحفظ الله العبد المؤمن بعد وفاته كما يحفظه في حياته4.
1 قال السهيلي: وإنما صارت سنة لأنها فعلت في زمنه صلى الله عليه وسلم واستحسنت من صنيعه، وقد صلاها زيد بن حارثة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كما صلاها حجر بن عدي بن الأدبر حين حمل إلى معاوية من العراق، ومعه كتاب زياد ابن أبيه يشهد عليه أنه خرج عليه، وأراد خلعه، وفي الكتاب شهادة جماعة من التابعين منهم الحسن، وابن سيرين، فلما دخل حجر بن عدي على معاوية قال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين.
قال معاوية: أوأنا للمؤمنين أمير؟ ثم أمر بقتله، فصلى ركعتين قبل قتله يرحمه الله وقد عاتبت عائشة معاوية في قتله، فقال: إنما قتله من شهد عليه، ثم قال: دعيني وحجرًا، فإني سألقاه على الجادة يوم القيامة.
قالت: فأين ذهب عنك حلم أبي سفيان؟ قال: حين غاب مثلك من قومي "الروض الأنف ج3 ص235".
2 السيرة النبوية ج2 ص173.
3 السيرة النبوية ج2 ص172.
4 صحيح البخاري ك المغازي باب غزوة الرجيع ج1 ص310-312، زاد المعاد ج3 ص244-246.