الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاسعًا: غزوة بدر الثانية
بعد تأديب الأعراب، والقضاء على شوكتهم أخذ المسلمون يتهيئون لملاقاة كفار مكة في الموعد الذي ضربوه لهم بعد "أحد".
وسبب هذه الغزوة أن أبا سفيان بن حرب لما أراد أن ينصرف يوم أحد نادى المسلمين، وقال لهم جهرًا وعلانية: موعد ما بيننا وبينكم بدر الصفراء، رأس الحول، نلتقي فيه فنقتتل.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "قل نعم إن شاء الله"1.
فافترق الناس على ذلك، ورجعت قريش وأخبروا من قبلهم بالموعد.
وكانت بدر الصفراء مجمعًا للعرب، وسوقًا تقوم لهلال ذي القعدة إلى ثمان ليال خلون منه، فإذا مضت ثماني ليال تفرق الناس إلى بلادهم.
فلما دنا الموعد كره أبو سفيان الخروج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحب ألا يوافي رسول الله صلى الله عليه وسلم الموعد حتى يدعي أن التخلف عن اللقاء بسبب المسلمين لا بسببه.
واستعمل أبو سفيان سلاح الضغط النفسي فكان يظهر أنه يريد أن يغزو رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمع كثيف، ويتحدث في ذلك حتى يصل الخبر إلى أهل المدينة، ويعلموا أنه يجمع الجموع ويحشد العرب، فيخافون ويقعدون.
قدم نعيم بن مسعود الأشجعي مكة -وأسلم بعد ذلك- فأخبر أبا سفيان، وقريشًا أن المسلمين يتهيئون لحربهم فأعلمه أبو سفيان بأنه كاره للخروج إلى لقاء المسلمين، واعتل بجدب الأرض، وجعل لنعيم عشرين فريضة توضع تحت يد سهل بن عمرو، على أن يخذل المسلمين عن المسير لموعده، وحمله على بعير.
فقدم نعيم المدينة، وأرجف بكثرة جموع أبي سفيان حتى أرعب المسلمين، وتمنوا عدم الخروج في الموعد واستبشر المنافقون واليهود وقالوا: لن يفلت محمد من هذا الجمع فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى خشي ألا يخرج معه أحد.
وجاءه أبو بكر وعمر رضي الله عنه وقد سمعا ما سمعا فقالا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى
1 انظر غزوة أحد.
مظهر دينه، ومعز نبيه، وقد وعدنا القوم موعدًا لا نحب أن نتخلف عنه، فيرون أن هذا جبن فسر لموعدهم، فوالله إن في ذلك لخيرة.
فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، ثم قال:"والذي نفسي بيده لأخرجن، وإن لم يخرج معي أحد" 1، فنصر الله تعالى المسلمين، وأذهب عنهم الرعب الذي غرسه الشيطان في نفوسهم.
وكان اللقاء ضروريًا لتتضح حقيقة كل طرف، وتظهر قوته، ويعلم أهل مكة أن المسلمين لن يستكينوا أبدًا، وأن هزيمتهم في "أحد" كانت خطأ لن يتكرر.
ففي شهر شعبان من السنة الرابعة للهجرة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده في ألف وخمسمائة، وكانت الخيل عشرة أفراس، وحمل لواءه علي بن أبي طالب، واستخلف على المدينة عبد الله بن رواحة، وقيل: إنه استخلف عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه وانتهى إلى "بدر" فأقام بها ينتظر المشركين2.
وأما أبو سفيان، فخرج في ألفين من مشركي مكة، ومعهم خمسون فرسًا، حتى انتهى إلى "مر الظهران" على بعد مرحلة من مكة فنزل بـ"مجنة""ماء في تلك الناحية".
خرج أبو سفيان من مكة متثاقلا وهو خائف من عقبى القتال مع المسلمين، وقد أخذه الرعب، واستولت على مشاعره الهيبة، فلما نزل بمر الظهران خار عزمه، فاحتال للرجوع، وقال لأصحابه: يا معشر قريش إنه لا يصلحكم إلا عام خصب، ترعون فيه الشجر، وتشربون فيه اللبن، وإن عامكم هذا جدب، وإني راجع فارجعوا3.
ويبدو أن الخوف والهيبة كانت مستولية على مشاعر أفراد الجيش المكي أيضًا، ولذلك أسرعوا في الرجوع إلى مكة بمجرد إشارة أبي سفيان بلا اعتراض من أحد ولم يبدوا أي مصادمة لهذا الرأي، أو يظهروا أي إصرار على القتال، ولم يلحوا على مواصلة السير للقاء المسلمين وبدا منهم أن الرجوع أمل تمنوه فلما رآه أبو سفيان رحبوا به.
وأما المسلمون فأقاموا ببدر ثمانية أيام، ينتظرون العدو، وباعوا ما معهم من التجارة فربحوا بكل درهم درهمين، ثم رجعوا إلى المدينة، وقد انتقل زمام المفاجأة إلى أيديهم، وتوطدت هيئتهم في النفوس وسادوا على الموقف، ولجأ الأعداء إلى المسالمة4.
وتعرف هذه الغزوة "ببدر الموعد" و"بدر الثانية" و"بدر الصغرى" و"بدر الآخرة".
1 إمتاع الأسماع ج1 ص148.
2 سيرة النبي ج2 ص211.
3 زاد المعاد ج3 ص255.
4 إمتاع الأسماع ج1 ص184.