الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيا: التزام الأمة بالإسلام
…
وعمل ثانيًا على صبغ الأمة بالصبغة الإسلامية العملية؛ لأن الإسلام لا تهمه أمة فارغة القلب والضمير لأنها تكون حينئذ ضعفًا ووهنا لا يسمن ولا يغني من جوع.
ولا تهمه أمة تعلن الإسلام ولا تعمل به، وترفع الشعار ولا تشعر به، وتدعي الدين وهي تناقضه بسلوكها وعملها.
وحتى تصير الأمة سندًا لحماية الحق، ونصر الدين كان لا بد لها أن تقيم بنيانها على تقوى من الله تعالى، ولعل ذلك هو ما قصده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبدأ نشاطه في المدينة ببناء مسجده الشريف ليكون مكانًا للتربية والتعليم، وجامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، ومنتدى تتآلف فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزعات الجاهلية وحروبها، وقاعدة لإدارة جميع شئون الدولة، ومركزًا لبعث الحملات والسرايا العسكرية، وبرلمانًا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية، وكان مع هذا كله دارًا يسكن فيه عدد كبير من فقراء المهاجرين الذين لم يكن لهم دار ولا مال ولا أهل ولا بنون.
لقد تحولت المدينة إلى مستقر آمن للدعوة، ومنطلق رئيس للحركة بالإسلام ولهذا رأينا تماسك المهاجرين والأنصار وتآخيهم تحت لواء الله تعالى في صورة متكاملة متوازنة وكان هذا التكامل شاملا لكل جوانب حياة أهل المدينة ولن أتحدث عن كل صور هذا التكافل ولكني أشير إلى بعض تلك الصور فقط وأهمها:
التكافل في بيت النبوة: فبيت النبوة هو مقر قيادة الأمة، فحينما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب الأنصاري وظل في منزله قرابة السبعة الأشهر، كان لا بد من توفير الطعام الذي يحتاجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن ينزل عليه من الناس، ولهذا تسابق الأنصار إلى بيت أبي أيوب يأتون بالطعام، جعلوا لأنفسهم نظام التناوب، فكل مرة مجموعة منهم، وما كانت من ليلة إلا وعلى باب رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة والأربعة يحملون الطعام، يتناوبون، وكان يدعو النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فيأكلون معه، فيحضر عشاءه الخمسة إلى الستة إلى العشرة.
التكافل في استقبال الأنصار للمهاجرين: لقد كانت المؤاخاة هي أبرز ما في الصورة فعبد الرحمن بن عوف كان أخا لسعد بن الربيع الأنصاري فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك دلني على السوق
وتقدمت الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: اقسم بيننا وبين إخواننا المهاجرين النخيل وطلبوا منه أن يجعل الأموال قطائع فيما بينهم، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رفض هذا وجعل على المهاجرين أن يعملوا في أرض إخوانهم الأنصار وأن يكون لهم جزء من الثمرة.
التكافل في تشريع الزكاة: فرغم أن التوجيه القرآني للمؤمنين لم ينقطع عن مخاطبة المؤمنين في العهد المكي للمسارعة إلى الصدقة بشكل عام، وذلك لتربية النفوس الدافعة، وسد عوز النفوس المحتاجة إلا أن مشروعية الزكاة بأنصبة محددة لم تشرع إلا في العهد المدني، وابتدأ فرض زكاة الفطر أولا، وصار هذا ملحقًا بمشروعية صيام شهر رمضان، فصارت زكاة الفطر تخرج عن الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، ثم جاءت بعد ذلك زكاة الأموال بأنصبتها المفروضة.
التكافل في صلاة الجمعة: إن أول جمعة جمعت كانت بالمدينة المنورة، سواء أقامها المسلمون قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره أو أقامها بعد قدومه المدينة مباشرة لأن المقصود بالجمعة إظهار شعار الإسلام، واجتماع المؤمنين كلهم، وموعظتهم، وكانت أول خطبة خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول جمعة أقامها في المدينة كانت في بني سالم بن عمرو بن عوف في طريقه من قباء إلى قلب المدينة وبما أن الجمعة هي لاجتماع المؤمنين وموعظتهم فإن هذا يفسر لنا سر تجمع المسلمين في المدينة يوم الجمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما كانوا يتفرقون بقية الأسبوع فيصلي بعضهم في مسجد الرسول، والبعض الآخر يصلي في مساجد متفرقة بلغ عددها تسعة مساجد، فإذا ما جاء يوم الجمعة تجمعوا في مسجد واحد حول قائد الأمة ليتأكد من قوة المسلمين، ويشرف على حضورهم وتربيتهم وإعدادهم.
التكافل في صوم شهر رمضان: حيث لم يتم هذا التشريع في العام الأول من الهجرة وإنما في العام الثاني، وفيه حصلت غزوة بدر الكبرى "يوم الفرقان".
إن فرض الصيام شهرًا كاملا كل عام يعد عبادة شرعها الله عز وجل، وحدد الغاية منها في القرآن الكريم بقوله:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 1 لأن المقصود من الصيام حبس النفس عن
1 سورة البقرة: 183.
الشهوات، وفطامها عن المألوفات، وتعديل قوتها الشهوانية، لتسعد لطلب ما فيه غاية سعادتها ونعيمها، ويذكرها بحال الأكباد الجائعة من المساكين، ومن ثم فإن التقوى هي ثمرة الصيام.
ولا شك أن تأخر هذا الفرض إلى السنة الثانية للهجرة كان له سبب وغاية ترجع إلى استقرار الإسلام، وتوطين النفس لتحمل هذا النوع من العبادة، ومع هذا رغم أنه فرض من أول وهلة، إلا أن الفرد المسلم كان مخيرًا بين الصيام والإطعام، ثم حسم بعد ذلك وجعل الإطعام لمن لا يطيق.
التكافل في مشروعية العيدين: العيد هو اليوم الذي يعتاد الناس فيه الاجتماع لتبادل الأشواق وإعلان الأفراح، وكان العرب يعتادون أيامًا عدة تقوم إما على الوثنية أو العصبية، فشرع الله للمسلمين عيدين يرتبطان بعبادة، فعيد الفطر الذي شرع بعد الانتهاء من غزوة بدر يبدأ بنهاية عبادة صيام شهر رمضان، وزكاة الفطر ويستهل يومه بصلاة العيد.
وعيد الأضحى يبدأ بنهاية عبادة الحج، ويستهل يومه أيضًا بالصلاة والأضحية التي تحمل في طياتها صورة من صور التكافل الاجتماعي وقد شرع في العام الثاني للهجرة وفيه ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحى الموسرون من المسلمين معه وهذا الموقف له دلالة عملية، ودلالة مرحلية واقعية، حيث تلاحظ التدرج الواقعي في المجتمع المسلم دون اعتساف أو تعجل، بل كل شيء في أوانه، وحينما تهيأ له الظروف والأجواء، وهنا نلاحظ أن المسلمين لم تعمهم الفرحة إلا بعد أن استقر أمرهم، وقامت دولتهم أما قبل ذلك فلا عيد ولا فرحة.