الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فدعوتهم إلى الإسلام ثلاثة أيام كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعثت فيهم ركبانًا ينادون: يا بني الحارث أسلموا تسلموا، فأسلموا ولم يقاتلوا، وإني مقيم بين أظهرهم آمرهم بما أمرهم الله به وأنهاهم عما نهاهم الله عنه، وأعلمهم معالم الإسلام، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكتب إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلام عليك يا رسول الله ورحمته وبركاته.
فكتب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي رسول الله إلى خالد بن الوليد، سلام عليك فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن كتابك جاءني مع رسولك يخبر أن بني الحارث بن كعب قد أسلموا وشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، قبل أن تقاتلهم، وأجابوا إلى ما دعوتهم إليه من الإسلام وأن الله قد هداهم بهداه فبشرهم، وأنذرهم، وأقبل، وليقبل معك وفدهم والسلام عليك ورحمة الله وبركاته"1.
1 سبل الهدى والرشاد ج6 ص354.
ثالثًا: تسيير السرايا للخارجين على النظام
مع ظهور سيادة الإسلام في الجزيرة، وتعيين العمال، وإرسال الدعاة ظهرت جماعات متعددة تعيش على النهب والسلب، وتأبى الخضوع للنظام الإسلامي، فكان لا بد من تأديب هذه الجماعات، والأخذ على يدها ليستتب الأمن، ويستقر النظام، ويتفرغ المسلمون للتعامل مع القوى الخارجية ودعوتهم إلى الإسلام، وعلى رأس هذه القوى الفرس والروم، لأن التوجه إليهم يحتاج إلى قوة وصبر ورجال.
وأهم هذه السرايا ما يلي:
1-
سرية عيينة بن حصن الفزاري، في المحرم سنة تسع، إلى بني تميم، في خمسين فارسًا لم يكن فيهم مهاجري ولا أنصاري، وسببها أن بني تميم كانوا قد أغروا القبائل، ومنعوهم عن أداء الجزية وحرضوهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خرج عيينة بن حصن يسير الليل ويكمن النهار، حتى هجم عليهم في الصحراء فولى
القوم مدبرين، وأخذ منهم أحد عشر رجلا، وإحدى وعشرين امرأة، وثلاثين صبيًا، وساقهم إلى المدينة، فأنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار رملة بنت الحارث.
وقدم فيهم عشرة من رؤسائهم، فجاءوا إلى باب النبي صلى الله عليه وسلم، فنادوا بصوت عال: يا محمد اخرج إلينا فخرج فتعلقوا به، وجعلوا يكلمونه، فوقف معهم، ثم مضى حتى صلى الظهر، ثم جلس في صحن المسجد، فأظهروا رغبتهم في المفاخرة والمباهاة، وقدموا خطيبهم عطارد بن حاجب فقال: الحمد لله الذي له الفضل علينا والذي جعلنا ملوكًا، وأعطانا الأموال نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعز أهل المشرق وأكثرهم مالًا وأكثرهم عددًا، فمن مثلنا في الناس؟ ألسنا برءوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحيي من الإكثار فيما أعطانا الله أقول قولي هذا لأن نؤتى بقول هو أفضل من قولنا.
فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابت بن قيس بن شماس، خطيب الإسلام، فأجابهم وقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهن أمره، ووسع كل شيء علمه، فلم يكن شيء إلا من فضله، ثم كان ما قدر أن جعلنا ملوكًا اصطفى لنا من خلقه رسولا، أكرمهم نسبًا، وأحسنهم زيًا، وأصدقهم حديثًا، أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان فآمن المهاجرون من قومه وذي رحمه، أصبح الناس وجهًا، وأفضل الناس فعالا، ثم كان أول الناس إجابة حين دعا رسول الله، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه، ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيرًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين والمؤمنات1.
ثم قدموا شاعرهم الزبرقان بن بدر فأنشد مفاخرًا، فأجابه شاعر الإسلام حسان بن ثابت على البديهة.
ولما فرغ الخطيبان والشاعران قال الأقرع بن حابس: خطيبه أخطب من خطيبنا،
1 إمتاع الأسماع ج1 ص436.
وشاعره أشعر من شاعرنا، وأصواتهم أعلى من أصواتنا، وأقوالهم أعلى من أقوالنا، ثم أسلموا فأجازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن جوائزهم، ورد عليهم نساءهم وأبناءهم وفيهم نزل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ، إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ، وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.
2-
سرية قطبة بن عامر إلى حي من خثعم بناحية تبالة، بالقرب من تربة، في صفر سنة تسع خرج قطبة في عشرين رجلا على عشرة أبعرة يتعقبونها، فشن الغارة، فاقتتلوا قتالا شديدًا حتى كثر الجرحى في الفريقين جميعًا، وقتل عدد كبير، وساق المسلمون النعم والنساء والشاء إلى المدينة.
3-
سرية الضحاك بن سفيان الكلابي إلى بني كلاب في ربيع الأول سنة تسع بعثت هذه السرية إلى بني كلاب، لدعوتهم إلى الإسلام، فأبوا وقاتلوا، فهزمهم المسلمون وقتلوا منهم رجلا.
4-
سرية علقمة بن محرز المدلجي إلى سواحل جدة في شهر ربيع الآخر سنة تسع في ثلاثمائة، بعثهم إلى رجال من الحبشة كانوا قد اجتمعوا بالقرب من سواحل جدة للقيام بأعمال القرصنة ضد أهل مكة، فخاض علقمة البحر حتى انتهى إلى جزيرة، فلما سمعوا بمسير المسلمين إليهم هربوا.
5-
سرية علي بن أبي طالب إلى صنم لطيئ، يقال له القلس، ليهدمه، في شهر ربيع الأول سنة تسع بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في خمسين ومائة على مائة بعير وخمسين فرسًا ومعه راية سوداء ولواء أبيض، فشنوا الغارة على محلة حاتم مع الفجر، فهدموه وملئوا أيديهم من
1 سورة الحجرات: 2-5.
السبي والنعم والشاء، وفي السبي أخت عدي بن حاتم، وهرب عدي إلى الشام، ووجد المسلمون في خزانة القلس ثلاثة أسياف وثلاثة أدرع، وفي الطريق قسموا الغنائم، وعزلوا الصفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقسموا آل حاتم.
ولما جاءوا إلى المدينة استعطفت أخت عدي بن حاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم غاب الوافد، وانقطع الوالد، وأنا عجوز كبيرة، ما بي من خدمة، فمنّ عليّ منّ الله عليك.
قال: "من وافدك".
قالت: عدي بن حاتم.
قال: "الذي فر من الله ورسوله". ثم مضى، فلما كان الغد قالت مثل ذلك وقال لها مثل ما قال أمس، فلما كان بعد الغد قالت مثل ذلك، فمنّ عليها.
ورجعت أخت عدي بن حاتم إلى أخيها عدي بالشام، فلما لقيته قالت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد فعل فعلة ما كان أبوك يفعلها، ائته راغبًا أو راهبًا، فجاء عديّ بغير أمان ولا كتاب، فأتي به إلى داره صلى الله عليه وسلم، فلما جلس بين يديه حمد رسول الله به وأثنى عليه، ثم قال:"ما يفرك؟ أيفرك أن تقول: لا إله إلا الله؟ فهل تعلم مِن إله سوى الله"؟.
قلت: لا.
ثم تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ثم قال: "إنما تفر أن يقال: الله أكبر فهل تعلم شيئًا أكبر من الله"؟.
قلت: لا.
قال: "فإن اليهود مغضوب عليهم، وإن النصارى ضالون".
قلت: فإني حنيف مسلم، فانبسط وجهه صلى الله عليه وسلم فرحًا، وأمر بي فنزلت عند رجل من الأنصار، وجعلت آتي النبي صلى الله عليه وسلم طرفي النهار.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فيما يهديه، ويرشده قال لي:"إيه يا عدي بن حاتم، ألم تكن ركوسيًا"؟.
قلت: بلى.
قال: "أولم تكن تسير في قومك بالمرباع"؟.
قلت: بلى.
قال: "فإن ذلك لم يحل لك في دينك".
قلت: أجل وعرفت أنه نبي مرسل، يعرف ما يجهل.
ثم قال: "يا عدي أسلم تسلم".
فقلت: إني من أهل دين.
قال: "أنا أعلم بدينك منك".
فقلت: أنت أعلم بديني مني؟
قال: "نعم، ألست من الركوسية، وأنت تأكل مرباع قومك".
فقلت: بلى.
قال: "فإن هذا لا يحل لك في دينك".
يقول عدي: بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثم أتاه آخر فشكا إليه قطع السبيل.
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله، ولئن طالت بك حياة لتفتحن كنوز كسرى، ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج ملء كفه من ذهب أو فضة ويطلب من يقبله، فلا يجد أحدًا يقبله منه".
يقول عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله وكنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ولئن طالت بكم حياة لترون ما قال النبي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم1.
1 الرحيق المختوم من ص425 إلى 428.