الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه الغنيمة على أفراد السرية بعد أخذ الخمس، ثم جاء فرات بن حيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم على يديه.
وقد مثلت هذه الغزوة مأساة شديدة، ونكبة كبيرة أصابت القرشيين بعد بدر، اشتد لها قلقهم وزادتهم همًا وحزنًا، ولم يبق أمامهم إلا طريقين: إما أن تمتنع عن غطرستها وكبريائها، وتأخذ طريق الموادعة والمصالحة مع المسلمين، أو تقوم بحرب شاملة تعيد لها مجدها التليد، وعزها القديم، وتقضي على قوات المسلمين، بحيث لا يبقى لهم سيطرة على هذا ولا ذاك، وقد اختارت مكة الطريق الثانية، فأخذت تعد العدة، وتضاعف الأعمال التي بدأتها بعد بدر وازداد إصرارها على المطالبة بالثأر، والتهيؤ للقاء المسلمين في تعبئة كاملة، وتصميم على الغزو فكان ذلك وما سبق من أحداث مقدمات واضحة لمعركة أحد.
وقد كان لسرية زيد أثرها الكبير على القرشيين، فقد فقدوا كثيرًا من أموالهم، وشعروا بأن المسلمين قد أحكموا حصارهم، ولذلك نشطوا في إعداد العدة لمهاجمة المسلمين، وحصارهم في المدينة، وتلقينهم درسًا يعوضهم عن كل ما فقدوه في "بدر" وفيما بعدها.
وكانت سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه في جمادى الآخرة من العام الثالث الهجري1.
1 سيرة النبي ج2 ص50، 51.
سابعًا: غزوة بني قينقاع
بنو قينقاع بطن من يهود المدينة، وهم قوم عبد الله بن سلام، عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تمام الهجرة مع سائر اليهود وحدد لهم الحقوق التي لهم، والواجبات التي يلتزمون بها، في إطار واضح أساسه "لهم ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين".
لكن اليهود وبخاصة يهود بني قينقاع هالهم توحد الأوس والخزرج في إطار الإسلام فازدادوا حقدًا وحاولوا الإيقاع بينهم ليعودوا لجاهليتهم، وتئول السيادة لهم مرة أخرى، يروي ابن إسحاق أن شاس بن قيس، وكان شيخًا "يهوديًا" عظيم الكفر، شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم، مر على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم، يتحدثون فيه، فغاظه ما رأى من ألفتهم، وجماعتهم،
وصلاح ذات بينهم بالإسلام وعلى الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية فقال: قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم حياة إذا اجتمع ملؤهم واتحدوا، وتماسكوا، فأمر فتى شابًا يهوديًا كان معه، وقال له: اعمد إليهم، فاجلس معهم ثم اذكر يوم بعاث، وما كان قبله، وانشدهم بعض ما كانوا يتقاولون فيه من الأشعار.
ففعل الغلام، وتأثر القوم، وعاودتهم ذكريات الماضي عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا، حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب فتقاولا، ثم قال أحدهم لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة، وغضب الفريقان جميعًا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة، السلاح، السلاح، فخرجوا إليها "وكادت أن تنشب الحرب".
فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين، حتى جاءهم فقال:"يا معشر المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم"؟.
فعرف القوم أنها نزعة شيطان، وكيد من عدوهم، فكبوا، وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس1.
وكان بنو قينقاع من أشد اليهود عداوة لله ورسوله، وكانوا يسكنون وسط المدينة ويشتغلون بصناعة الذهب والحديد، فلما انتصر المسلمون في "بدر" بدءوا يظهرون حقدهم، ويثيرون المشاحنات مع المسلمين، فذهب إليهم صلى الله عليه وسلم في سوقهم وقال لهم:"يا معشر يهود، أسلموا، فوالله إنكم لتعلمون أني رسول الله صلى الله عليه وسلم، يا معشر يهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة فأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني مرسل، تجدون ذلك في كتابكم، وعهد الله إليكم قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا".
قالوا: يا محمد، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش، كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تلق مثلنا فأنزل الله تعالى
1 سيرة النبي ج2 ص48-49.
ولم ينته بنو قينقاع بعد هذا اللقاء، فأخذوا يتحرشون بالمسلمين في جرأة، واستهتار، حتى أنهم أخذوا في التعدي على نساء المسلمين.
يروي ابن هشام أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها، فباعته في سوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها فأبت، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها فعقده إلى ظهرها -وهي غافلة- فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله -وكان يهوديًا- فشدت اليهود على المسلم فقتلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
وأنزل الله سبحانه وتعالى قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} 2.
فقال صلى الله عليه وسلم: "إنما أخاف من بني قينقاع"، فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه الآية، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب، وكان اللواء أبيض اللون.
قال ابن سعد: ولم تكن الرايات يومئذ قد حدثت، ولذلك لم تكن هناك راية للمسلمين، واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر فتحصنوا في حصنهم فحاصرهم أشد الحصار، فأقاموا على ذلك خمس عشرة ليلة، حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم أموالهم، وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا، واستعمل على كتافهم المنذر بن قدامة السلمي، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لهم من حلفه مثل الذي لهم من عبد الله بن أبي بن سلول، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ إلى الله تعالى ورسوله من حلفهم، وقال: يا رسول الله
1 سورة آل عمران: 12-13.
2 سورة الأنفال: 58.
أتولى الله ورسوله والمؤمنين، وأبرأ من حلف هؤلاء الرجال.
فقام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بن سلول حين أمكنه الله منهم، فقال: يا محمد أحسن في موالي، وكانوا حلفاء الخزرج، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال ابن أبي: يا محمد أحسن في موالي، فأعرض عنه، فأدخل يده في جيب درع رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلفه، وكان يقال لها ذات الفضول.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ويحك أرسلني". وغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأوا لوجهه ظللا ثم قال: "ويحك أرسلني".
قال: والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي: أربعمائة حاسر، وثلاثمائة دارع، قد منعوني من الأحمر والأسود، تحصدهم في غداة واحدة، إني والله امرؤ أخشى الدوائر.
فقال صلى الله عليه وسلم: "خلوهم لعنهم الله". ولعنه معهم، وتركهم من القتل، وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة، فخرجوا بعد ثلاث، وولى إخراجهم منها عبادة بن الصامت، وقيل: محمد بن مسلمة، فلحقوا "بأذرعات"1 فما كان أقل بقائهم بها2.
ووجد المسلمون في منازلهم سلاحًا كثيرًا، وآلة للصياغة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية والخمس، وقسم أربعة أخماسه على أصحابه، فكان أول خمس وزع بعد "بدر" وكان الذي قبض أموالهم محمد بن مسلمة، وأنزل الله تعالى في شأن عبد الله بن أبي، وفي شأن عبادة بن الصامت قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ، فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} 3 أي عبد الله بن أبي وقوله: إني أخشى الدوائر، وهذا ما أشار إليه قوله تعالى:{يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ} أما المؤمنون الصادقون فهم أولياء المؤمنين، يفضلون ولاية الله ورسوله على أي ولاية سواها، وفي ذلك
1 الطبقات الكبرى ج2 ص29.
2 المغازي ج1 ص179.
3 سورة المائدة: 51-52.