الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سابعًا: أحد وحركة الدعوة
حين ننظر إلى معركة "أحد" نرى تقلب أحداثها، وتبدل أحوالها في كل أطرافها فلقد عاش كل فريق الغلبة والانكسار، مرة بعد أخرى، إلا أن محصلة الخسائر في المسلمين كانت أكبر منها في معسكر المشركين، وهذا ما جعل بعض المؤرخين يرى أن المسلمين قد انهزموا في أحد، باعتبار عدد القتلى، وكثرة الجرحى، ورجوع المشركين بقتلاهم دون أن يؤسر منهم أحد، رغم أن القتال كان بجوار المدينة بعيدًا عن موطنهم مكة.
والأمر بمقياس ذاك الزمان يشير إلى هزيمة المسلمين؛ لأن المعارك كانت عبارة عن تشابك بالأيدي، وتلاحم بالسيوف، ومواجهة مباشرة بالدروع والنبال، وكانت الحرب تستمر يومًا وبعض يوم، كما حدث في "بدر" وفي "أحد" وفي غيرهما من السرايا والغزوات وبعدها يقف القتال، ويعود كل فريق لموطنه، والنصر حينئذ يكون لمن ألحق بخصمه خسائر أكبر.
وبهذا المقياس يظهر انتصار القرشيين كما فهمه معاصرو "أحد" ولذلك أتى أبو سفيان حين قدم مكة هبل وقال له: قد أنعمت علي ونصرتني، وشفيت نفسي من محمد، وأصحابه، وحلق رأسه، وما فعل أبو سفيان ذلك إلا لشعوره بانتصار المكيين على المسلمين.
وبسبب هذا الفهم أخذ الأعداء يجاهرون بعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللإسلام، وجرءوا على معاداة المسلمين، وكثر التواصل بينهم شماتة بالمسلمين، وفرحًا بهزيمتهم وأملا في استمرار الإحساس بالنصر.
لكن بعض العلماء ينظر لأحداث "أحد" من ناحية أخرى، ويرى أنها كانت صقلا للمسلمين، وتقوية لإيمانهم، وتجلية لما يجب أن يلتزموا به في إطار حركة الدعوة وهم يعملون للإسلام، ويسلم هؤلاء العلماء بانتصار القرشيين ظاهرًا، ويرونه انتصارًا مؤقتًا لا يلبث أن يزول، وأن خسائر المسلمين جزء من الإعداد والتدريب، ويقولون: إن انكسار المسلمين يوم "أحد" كان عامل قوة لهم أدت بهم إلى انتصارات لاحقة، بعدما استفادوا من دروس "أحد" وتمكنوا بالانتصارات اللاحقة من نشر الإسلام، وإيصال الدعوة
إلى العالم كله، وعملوا على إبراز ما في دينهم من قوة ذاتية معنوية، بجوار استعدادهم لبذل أموالهم وأرواحهم لخدمة دين الله تعالى، وهؤلاء المتفائلون يبنون نظرتهم تلك على معطيات واقعية أهمها ما يلي:
1-
بروز بطولة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته وثباته في وجه أعدائه وإصراره على مقاتلتهم وحده مع أن الصحابة فروا عنه وتركوه، وتلك مسألة لا بد من وضوحها لبيان ما قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحمله في سبيل دين الله تعالى.
وتظهر شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم من ثباته وحيدًا أمام جيش قريش، وحرصه على قتل ابن الأشرف، بعدما أصيب وبقي وحده، وكان صلى الله عليه وسلم في حالة يفر فيها الأبطال المغاوير، وكان أبي بن خلف يتصور نفسه قادرًا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما جاءه فوجده جريحًا ووحيدًا.
فلقد أقبل أبي بن خلف يركض بفرسه حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترض له ناس من المسلمين ليقتلوه، فقال صلى الله عليه وسلم:"استأخروا عنه".
وقام صلى الله عليه وسلم وحربته في يده فرماه بها بين سابغة البيضة والدرع فطعنه صلى الله عليه وسلم في هذا الموضع فوقع عن قوسه، وكسر ضلعًا من أضلاعه، فاحتملوه فمات لما ولوا قافلين بالطريق وتحقق بذل ما أنبأ به صلى الله عليه وسلم قبل "أحد".
وقصة ذلك النبأ أن أبي بن خلف قدم المدينة في فداء ابنه حين أسر يوم "بدر"، فقال: يا محمد إن عندي فرسًا أعلفها كمية كبيرة من ذرة كل يوم حتى أقتلك عليها.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتلك عليها إن شاء الله".
وكان صلى الله عليه وسلم في القتال لا يلتفت وراءه وكان يقول لأصحابه: "كأني أخشى أن يأتي أبي بن خلف من خلفي، فإذا رأيتموه فآذنوني"، فإذا بأبي يركض على فرسه، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه، فجعل يصيح بأعلى صوته: يا محمد لا نجوت إن نجوت.
فقال القوم: يا رسول الله! ما كنت صانعًا حين يغشاك فقد جاءك! وإن شئت عطف عليه بعضنا.
فأبى صلى الله عليه وسلم ودنا أبي فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة، ويقال من الزبير بن
العوام، ثم انتفض بأصحابه كما ينتفض البعير فتطاير عنه أصحابه ولم يكن أحد يشبه رسول الله إذا جد الجد، ثم أخذ الحربة فطعن أبي بن خلف بها في عنقه، وهو على فرسه فجعل يخور كما يخور الثور.
يقول له أصحابه: يا أبا عامر! والله ما بك بأس، ولو كان هذا الذي بك بعين أحدنا ما ضره.
فيقول لهم: لا واللات والعزى، ولو كان هذا الذي بي بأهل "ذي المجاز" لماتوا أجمعون1.
وهكذا تحققت النبوءة المحمدية، وقتل أبي بن خلف، وتأكدت شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم.
وبهذه الصورة الشجاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعلمت الأمة ضرورة وجود القائد الشجاع الذي يقود الأمة نحو تحقيق شرع الله تعالى، وحماية، دينه في الأرض كلها، وبخاصة في الأوقات الصعبة، ووسط الظروف الحاسمة، وبين للمسلمين ولغيرهم أهليته صلى الله عليه وسلم لتحمل الرسالة وأعبائها، وتفرده ليكون الأسوة والقدرة لكل عاقل أريب.
وقد استوعب المسلمون هذا الدرس، وأحاطوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولاموا أنفسهم على ما فرطوا فيه، وبخاصة ما فعله الرماة منهم، وحرصوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة الراشدين من الخلفاء، وتولية الرجال القادرين على حمل الأمانة، وتقرير المسئولية.
2-
التسليم بضرورة وقوع الابتلاء لتمييز الخبيث من الطيب، ولذلك كان ابتلاء الأنبياء والرسل، فلم يحدث لهم انتصار دائم، أو هزيمة دائمة، وإنما تفاوت أمرهم بين هذا وذاك.
يقول الحافظ بن حجر: والحكمة في ذلك أنهم لو انتصروا دائمًا لدخل في المؤمنين من ليس منهم، ولم يتميز الصادق من غيره، ولو انكسروا دائمًا لم يحصل المقصود من البعثة، فاقتضت الحكمة الجمع بين الأمرين، حتى يتميز الصادق من الكاذب وقد ظهر المنافقون، وعرفهم المؤمنون في "أحد" وذلك أن باطن المنافقين كان مخفيًا عن المسلمين فلما جرت أحداث "أحد" وأظهر أهل النفاق ما أظهروه من الفعل والقول، عاد التلويح تصريحًا، وعرف المسلمون أن لهم عدوًا في دورهم، فاستعدوا لهم وتحرزوا منهم2.
1 المغازي ج1 ص250، 251، زاد المعاد في هدي خير العباد ج3 ص209، 210.
2 فتح الباري ج7 ص347.
ولذلك كانت هزيمة "أحد" بعد انتصار "بدر"، وكانت "أحد" سببًا في إقبال المسلمين بعد ذلك، والتزامهم بطاعة الله ورسوله حتى نصرهم الله تعالى.
إن الابتلاء بصورة عامة يمحص الجبهة الإسلامية من عدة نواح.
فهو يطهر القلوب، ويخلصها من شوائب المادة، وثقل الغرائز، لأن القلوب تخالطها الشهوات، وتؤذيها الخواطر النفسية، وتحكمها العادات، وتستولي عليها الغفلة، ويلعب بها الشيطان، وهي في حاجة مستمرة للمجاهدة والتوجيه والإنذار، ولذلك اقتضت حكمة العزيز الرحيم أن يقيض لها من المحن والبلاء ما يكون كالدواء الكريه مذاقه وفيه الشفاء، فكانت نعمته سبحانه وتعالى عليهم بهذه الكسرة والهزيمة، وقتل من قتل منهم تعادل نعمته عليهم بنصرهم وتأييدهم، وظفرهم بعدوهم، فله عليهم النعمة التامة في هذا وذاك.
كما أنه سبحانه لو نصرهم دائمًا لطغت نفوسهم، شأن طغيانها لو بسط لهم الرزق قال تعالى:{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} 1 فدارت حياة المؤمنين بين السراء والضراء، والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فإن النفوس تكسب من العافية الدائمة والنصر والغناء طغيانًا وركونًا إلى العجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته قيض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء وتلك المحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ويقطع العروق المؤلمة، لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
كما أنه سبحانه قد هيأ لعباده المؤمنين منازل في دار كرامته لم تبلغها أعمالهم، ولم يكونوا بالغيها إلا بالبلاء والمحنة، فقيض لهم الأسباب التي توصلهم إليها من ابتلاءه وامتحانه قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} 2.
1 سورة الشورى: 27.
2 سورة آل عمران: 142.
كما أن هذه المحن استخراج عبودية أوليائه، وبروز معدن حزبه في أحوال يظهر فيها الإنسان على حقيقته في السراء والضراء، وفيما يحبون ويكرهون، وفيحال ظفرهم، وظفر عدوهم بهم، فإذا ثبتوا على العبودية فيما يحبون ويكرهون فهم عبيده حقًا، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء، والنعمة، والعافية.
وهناك تمحيص خارجي للمؤمنين، لتمحيص صفوفهم ممن كان يظن أنه منهم وهو عدو لهم، وقد أشار إليه الله تعالى بقوله:{وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} وذلك حتى يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} فإن المسلمين لما أظهرهم الله تعالى "ببدر"، دخل معهم جمهور كبير ممن لم يدخل الإيمان في قلوبهم من المنافقين، فاقتضت حكمته تعالى أن يسبب لهم محنة "أحد" حتى يميز الخبيث من الطيب بتمييز المنافق من المؤمن، قال تعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} 1.
إن من أخطر الأمور على بنيان أمة الإسلام أن يعيش بين صفوفها من لا يؤمن بمبادئها وأهدافها، ومن يمالئ العدو ساعة الشدة عليها، يعيش بينهم مجهولا منهم فلا يأخذون حذرهم منه، يظنونه معهم وهم عليهم {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} 2.
إن المنافقين جرثومة فساد في جسم الأمة، وبؤرة خبيثة في كيانها، يعيشون بين صفها الواهن، ويبلبلون الأفكار، ويشككون في المواقف، وهم فوق هذا وذاك طابور خامس للعدو الخارجي، من هذا كان عذابهم أشد قال الله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} 3.
وقد يتمنى البعض أن يطلع الله تعالى المؤمنين على غيبه حتى يعلموا هؤلاء المنافقين
1 سورة آل عمران: 179.
2 سورة المنافقنون: 4.
3 سورة النساء: 145.
فيتقوا شرورهم بلا محن وابتلاء؟ والله قادر على إظهار ما عليه المنافقون، وإزهاق ما يقومون به من أباطيل، لكن الحكمة الإلهية اقتضت غير ذلك.
إن هذه الأمنية لا تلتقي مع حكمة الله العليا، يقول الله تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ} 1 ذلك أن المنافقين وإن كانوا متميزين في علمه وغيبه، لكن ذلك شيء وتميزيهم تميزًا مشهودًا مطلب آخر، فيه تكمن حكمة الله تعالى، حتى يقع غيبه شهادة، فيجازيهم على واقع مشهود، لا على غيب معلوم له تعالى وحده.
وقد قدر سبحانه وتعالى للمسلمين محنة يوم "أحد" ليتحول الغيب المجهول إلى واقع معلوم، وليعلم المسلمون درسًا في سياسة الحياة، وهي أن العدو يداجي خططه، ويخفيها ويلبسها بلباس غيرها، ليصل إلى ما يريد، وعليهم أن يحذروا، ويعملوا على تجنبه مهما تزين، وتزخرف.
وبذلك فقد حصل للمسلمين تمحيصان: تمحيص داخلي، وتمحيص خارجي، وفي كل خير جليل، ونفع للمسلمين عظيم، وبهذا كشف الله قناع الخير، وأسفر ليل المحنة عن نهار النعمة، وأشرقت النفوس بعد فيض الدروس، وتهللت الأرواح بعد زوال الأشباح، وخرجت نفوس المؤمنين من المحنة أنقى ما كانت، وأصفى وأرضى بقضاء الله وأغبط، بعد تجلية القرآن لما منحوه من خير عميم، خصوا به دون غيرهم من المنافقين الذين لا يحبهم الله، ولذا حال بينهم وبين ما ابتلى به المؤمنين، حتى لا يتخذ منهم شهداء مع عصاينهم كما اتخذ من أوليائه شهداء، يشير الله تعالى إلى إيثار المؤمنين بالشهادة دون المنافقين في قوله تعالى:{وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} 2 وفي هذا دلالة صريحة على أن اتخاذ الشهداء نعمة يهبها الله لمن أحب من عباده المؤمنين.
3-
تلقى المسلمون درسا في ضرورة دقة الطاعة، وعدم الاجتهاد فيما فيه نص، فلقد أتى المسلمون من قبل الرماة الذين تركوا أماكنهم لجمع الغنائم، وعصوا بذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريح بعدم ترك الجبل مهما كانت الظروف، وقد أفاد هذا الدرس
1 سورة آل عمران: 179.
2 سورة آل عمران: 140.
المسلمين في المعارك التي حدثت بعد ذلك، وتأكدوا من نتائج المخالفة، وآثارها السيئة فلم يقعوا فيها، واستمروا يعملون بمقتضى الأمر الصريح، والنص الفصيح، والتزموا حدود الاتباع ودقة الطاعة.
4-
لم تحقق قريش شيئًا من أهدافها التي جاءت من أجلها، فلا هي قضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تستول على المدينة، ولم تمنع المسلمين من الحركة بدينهم، وتطبيق شريعة الله تعالى ولم تحرر طرقها التجارية إلى الشام، ولذلك عند نصرها نصرًا جزئيًا مؤقتًا.
يقول الأستاذ محمود شيت خطاب: لا أتفق مع المؤرخين في اعتبار نتيجة غزوة "أحد" نصرًا للمشركين، واندحارًا للمسلمين؛ لأن مناقشة المعركة عسكريًا تظهر انتصار المسلمين على الرغم من خسائرهم الفادحة بالأرواح في هذه المعركة ونبدأ المناقشة من الوجهة العسكرية البحتة، لأظهار حقيقة نتائج غزوة أحد.
لقد انتصر المسلمون في ابتداء المعركة حتى استطاعوا طرد المشركين من معسكرهم والإحاطة بنسائهم وأموالهم، وتعفير لوائهم في التراب، ولكن التفاف خالد بن الوليد وراء المسلمين، وقطع خط رجعتهم، وهجوم المشركين من الإمام جعل قوات المشركين تطبق من كافة الجوانب على قوات المسلمين، هذا الموقف في المعركة جعل خسائر المسلمين تتكاثر، ولكن بقي النصر بجانبهم إلى الوقت الأخير.
إن نتيجة كل معركة عسكرية لا تقاس علميًا، وواقعيًا، بعدد الخسائر في الأرواح فقط بل تقاس بالحصول على هدف القتال الحيوي، وهو القضاء المبرم على العدو ماديًا ومعنويًا؟؟ فهل استطاع المشركون القضاء على المسلمين ماديًا أو ومعنويًا؟ 1
إن حركة خالد كانت مباغتة للمسلمين بلا شك، وقيام المشركين بالهجوم المقابل وإطباقهم على قوات المسلمين من كافة الجوانب وهم متفوقون بالعدد إلى خمسة أمثال المسلمين، كل ذلك كان يجب أن تكون نتائجه القضاء الأكيد على كافة قوات المسلمين، لكن ذلك لم يحدث، ولا يمكن أن يعد التفاف قوة متفوقة تفوقًا ساحقًا على قوة صغيرة من جميع جوانبها، ثم نجاة تلك القوة الصغيرة بعد خسائر العشر فقط من عددها هزيمة، لا يعد ذلك إلا انتصارًا لتلك القوة الصغيرة، ولا يمكن اعتبار فشل القوة الكبيرة في القضاء على القوة الصغيرة ماديًا في مثل هذا الموقف الحرج للغاية، انتصارًا بل هو الفشل
والانكسار لهذه القوة الكبيرة.
ولم تستطع قريش أن تؤثر على معنويات المسلمين أيضًا، وإلا لما استطاع المسلمون الخروج لمطاردتها بعد يوم فقط من يوم "أحد" دون أن تتجرأ قريش على لقائها بعيدًا عن المدينة، خاصة وأن الرسول قد خرج للقاء قريش بقوته التي اشتركت "فعلا" بمعركة أحد، دون أن يستعين بغيرهم من الناس:
إن نجاة المسلمين من موقفهم الحرج الذي كانوا فيه بأحد نصر عظيم لهم، لأن أول نتائج إطباق المشركين على المسلمين من كافة الجهات في التصور العقلي هو الفناء التام، لكن ذلك لم يحدث1.
إن المكيين لم يسيطروا على معسكر المسلمين، ولم يتمكنوا من أسر مسلم واحد ولم يغنموا شيئًا، ولم يقطعوا رابطة الاتصال بين المسلمين وقيادتهم، وذلك يؤكد النظرة القائلة بأن ما حدث في "أحد" لم يكن هزيمة مطلقة، وإن لا لما انسحب المشركون في نهاية النهار خوفًا من ظلام الليل، وشجاعة المؤمنين.
5-
تعلم المسلمون من معركة "أحد" دروسًا استفادوا بها في مواجهة أعداء الله بعد ذلك، ومن هذه الدروس ضرورة الطاعة، وتنفيذ توجيهات القيادة، وأهمية مفاجأة العدو وعدم تركه يتخير زمان ومكان وكيفية المعركة، وعلموا كذلك ضرورة مطاردة العدو حين انكساره، وعدم تركه لتجميع صفوفه مرة أخرى، كما ظهر في السرايا والغزوات بعد "أحد".
ولو قدر الله للمسلمين أن يطاردوا أعداءهم في المرحلة الأولى التي انهزم فيها الكفار لقضوا عليهم، وألحقوا بهم الخسائر الكثيرة لكنهم لم يفعلوا ذلك، وانشغلوا بجمع الغنائم فكانت الجائرة عليهم.
6-
علم المسلمون ما يناله الشهداء من فوز، وبذلك عد من قتل منهم فائزًا منتصرًا فأسرعوا إلى الجهاد رجاء نيل الشهادة.
يروي البخاري بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم "أحد"
1 الرسول القائد ص12.
وقال له: أرأيت إن قتلت فأين أنا؟
قال صلى الله عليه وسلم: "في الجنة".
فألقى تمرات كن في يده، ثم قاتل حتى قتل1.
وروى الإمام مسلم بسنده من حديث أنس "أن عمير بن الحمام أخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة" ثم قاتل حتى قتل.
والقصتان مختلفتان، قد وقعتا لرجلين مختلفين، حيث وقع التصريح في حديث أنس أن ذلك كان يوم "بدر" كما صرح في حديث جابر أن ذلك كان في يوم "أحد".
وهذان شيخان كبيران من الصحب الكرام رخص لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في التخلف لسنهما، غير أن الرغبة في الشهادة قد دفعتهما إلى اللحاق بالمسلمين ليحرزاها، يروي ابن إسحاق بسنده قائلا: كان اليمان والد حذيفة وثابت بن وقش شيخين كبيرين، فتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع النساء والصبيان، فتذاكرا بينهما، ورغبا في الشهادة، فأخذا سيفيهما، ولحقا بالمسلمين بعد الهزيمة، فلم يعرفوا بهما، فأما ثابت فقتله المشركون، وأما اليمان فاختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه ولا يعرفونه2.
ويوضح لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنعم الله به عليهم فيقول صلى الله عليه وسلم: "لما أصيب إخوانكم "بأحد" جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنة، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش، فلما وجدوا مأكلهم، ومشربهم، وحسن مقيلهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عن الحرب، فقال الله: أنا أبلغهم عنكم" 3 فأنزل الله قوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} 4.
1 صحيح البخاري كتاب المغازي باب غزوة أحد ج6 ص288.
2 سيرة النبي ج2 ص87 وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم دفع دية اليمان رضي الله عنه لكن ولده حذيفة عفا وتصدق بديته على المسلمين.
3 أسباب النزول ص73.
4 سورة آل عمران: 169.
وما لهم لا يفرحون بالشهادة ويستبشرون بها، والمولى عز وجل يحدثنا عنهم ويبين أنهم أحياء في رحاب فضله وكرمه ومستقر رحمته وواسع جناته، ينعمون بالنعيم الدائم في خير جوار، قد أبيحت لهم أنهار الجنة وثمارها، طعام لا كالطعام، وشراب لا كالشارب، فشتان بين طعام الأرض وطعامهم، وشراب الأرض وشرابهم، وهيئت لهم مساكن لا في جبال الأرض، وهجيرها وزمهريرها، ولكن في ساق العرش، قناديلها من ذهب وملاطها من فضة، فطاب المثوى، وكرم المأوى.
فجمع الله لهم بذلك إلى الحياة الدائمة، منزلة القرب منه، ومعيشة لهم، وجريان الرزق المستمر عليهم، وفرحهم بما آتاهم من فضله إنهم يعيشون عنده بالرضا، بل بما هو فوق الرضا، بل هو كمال الرضا، وفرحهم التام بإخوانهم الذين باجتماعهم بهم يتم سرورهم ونعيمهم، واستبشارهم بما يجدد لهم كل وقت من نعمته وكرامته.
وعلى هذا فإن الآثار التي تركتها "أحد" في المسلمين، محصت إيمانهم، وجعلتهم يقبلون على الله دائمًا، ويتمنون الحياة لله والموت في سبيله سبحانه وتعالى1.
1 انظر زاد المعاد في هدي خير العباد ص218-242.