الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تاسعًا: غزوة بني المصطلق
وتعرف بغزوة المريسيع1 وكان وقوعها في شعبان سنة ست للهجرة بعد الخندق على الصحيح، ودليل ذلك أن آية الحجاب نزلت في شأن زينب بنت جحش رضي الله عنها بعد زواجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك سألها صلى الله عليه وسلم عن الإفك الذي دار حول عائشة رضي الله عنها فقالت: أحمي سمعي وبصري وقالت عنها عائشة رضي الله عنها، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.
وحادثة الإفك كانت أثناء العودة من غزوة بني المصطلق ونزول آية الحجاب كان بعد زواج زينب، وزواج زينب كان في ذي القعدة من السنة الخامسة فإذا ما علم أن حادثة الإفك كانت بعد نزول آية الحجاب، إذا علم ذلك صح أن "غزوة المريسيع" كانت في السنة السادسة بعد الخندق2.
وسبب هذه الغزوة أن الحارث بن ضرار زعيم بني المصطلق سار في قومه، ومن قدر عليه من العرب، يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وأخذوا في إعداد العدة لذلك فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب الأسلمي ليعلم خبرهم فلما رأى تجمعهم واستعدادهم عاد لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما رأى، فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس وأخبرهم خبر عدوهم، فأسرعوا بالخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أمر على المدينة زيد بن حارثة.
ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المريسيع فنزله، وضرب قبة من أدم، وكان معه من نسائه عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما.
اجتمع المسلمون على الماء، وأعدوا وتهيئوا للقتال، وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودفع راية المهاجرين إلى أبي بكر رضي الله عنه، وراية الأنصار إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه، ويقال: كان مع عمار بن ياسر رضي الله عنه راية المهاجرين.
1 المريسيع: بضم الميم، وفتح الراء مصغرًا اسم لماء خزاعة بينه وبين المدينة ما يقرب من سبعين ميلا.
2 انظر سيرة ابن هشام ج2 ص289.
ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن ينادي فنادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله تمنعوا بها أنفسكم، وأموالكم، ففعل عمر رضي الله عنه فأبوا الإذعان فرماهم.
وكان عمر أول من رمى من المسلمين ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يحملوا عليهم فحملوا حملة رجل واحد فما أفلت إنسان من بني المصطلق، وقتل عشرة منهم وأسر سائرهم، وسبى رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال، والنساء والذرية وغنمت النعم والشاء، وما قتل أحد من المسلمين إلا رجل واحد يقال له هشام بن صباية رضي الله عنه1.
وكان من جملة السبي جويرية بنت الحارث سيد القوم، وقعت في سهم ثابت بن قيس فكاتبها، فأدى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها.
وقد شعر المنافقون بافتضاح أمرهم في غزوة الأحزاب، فجمعوا جموعهم وأرادوا خلخة الصف الإسلامي بالإشاعات، وزرع جذور الوهن، وأخذوا يتحينون الفرص لبث أكاذيبهم، وكان أول هذه الفرص بعد غزوة الأحزاب في زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم "زينب بنت جحش" رضي الله عنها حيث أخذوا يذكرون للناس أنها الزوجة الخامسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لا يجوز، وقالوا: إن محمدًا أحبها وهي تحت زيد، فأمر صلى الله عليه وسلم زيدًا أن يطلقها ليتزوجها، وهذا كذب وضحناه قبل2 ورد الله عليه في قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} 3.
وانتهز المنافقون خروج المسلمين إلى بني المصطلق فخرجوا معهم في أعداد كبيرة، وتظاهروا بانصهارهم في الصف الإسلامي، وأخذوا يتحينون الفرصة لتحقيق ما خرجوا له.
يقول المقريزي: وبينما المسلمون على ماء المريسيع إذ أقبل "سنان بن وبر الجهني" حليف الأنصار ومعه فتيان من بني سالم يستقون، وعلى الماء جمع من المهاجرين والأنصار فأدلى دلوه، وأدلى "جهجاة بن مسعود" أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه دلوه،
1 المغازي ج1 ص407.
2 انظر ص128-131.
3 سورة الأحزاب: 1.
فالتبست دلو سنان ودلو جهجاه، وتنازعا فضرب جهجاه سنانًا فسال دم سنان فنادى: يا للخزرج، وثارت الرجال، فهرب جهجاه إلى قومه وجعل ينادي في العسكر: يا لقريش، يا لكنانة، فأقبلت قريش وأقبلت الأوس والخزرج، وشهروا السلاح حتى كادت أن تكون فتنة عظيمة، فقام رجال في الصلح فترك سنان حقه.
وانتهز عبد الله بن أبي الموقف وكان جالسًا في عشرة من المنافقين فغضب وقال: والله ما رأيت كاليوم مذلة، والله إني كنت لكارهًا لوجهي هذا ولكن قومي قد غلبوني قد فعلوها، قد نافرونا، وكاثرونا في بلدنا، وأنكروا منتنا، والله ما صرنا وجلاليب قريش هذه إلا كما قال القائل "سمن كلبك يأكلك" والله لقد ظننت أني سأموت قبل أن أسمع هاتفًا يهتف بما هتف به جهجاه، وأنا حاضر لا يكون لذلك مني غير "والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل".
ثم أقبل ابن أبي على من حضر من قومه فقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وأنزلتموهم منازلكم، وآسيتموهم في أموالكم حتى استغنوا أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير بلادكم، ثم لم ترضوا ما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم أغراضًا للمنايا فقتلتم دونهم، فأيتمتم أولادكم، وقللتم عددكم وكثروا1.
أخبر زيد بن أرقم رسول الله بما رأى وسمع فتغير وجه رسول الله واستوثق منه وأبى على أصحابه قتل ابن أبي حتى لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه.
وجاء ابن أبي ينفي صدور ما ذكر عنه فنزل قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} 2.
وقطعًا لهذه الفتنة، ومنعًا للخوض فيها بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة أثناء الحر الشديد، وكان صلى الله عليه وسلم لا يروح حتى يبرد الجو.
وجاء عبد الله بن عبد الله بن أبي رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن كنت تريد أن
1 إمتاع الأسماع ج1 ص199.
2 سورة المنافقون: 1.
تقتل أبي فيما بلغك عنه فمرني به، فوالله لأحملن إليك رأسه قبل أن تقوم من مجلسك هذا، والله لقد علمت الخزرج ما كان فيها رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى يا رسول الله أن تأمر غيري فيقتله فتدعوني نفسي أن أنظر إلى قاتل أبي فأقتله فأدخل النار وعفوك أفضل، ومنك أعظم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردت قتله، وما أمرت به، ولنحسن صحبته ما كان بين أظهرنا".
فقال عبد الله: إن أبي كانت هذه البحيرة قد اتسقوا عليه ليتوجوه، فجاء الله بك فوضعه ورفعنا بك، ومعه قوم يطيفون به يذكرونه أمورًا قد غلب الله عليها1.
وانتهز المنافقون حادثة أخرى وقعت حين رجوع المسلمين من المريسيع هي "حادثة الإفك" التي ظهرت بين المسلمين فتلقفها ابن أبي، وتولى كبر إذاعتها ونشرها وكما أخزاه الله تعالى بنزول القرآن الكريم في تأكيد كذبه في المرة الأولى أخزاه مرة أخرى بنزول براءة السيدة عائشة رضي الله عنها من فوق سبع سماوات2.
وسجل القرآن الكريم هذين الموقفين ليعلم المؤمنون طبائع المنافقين، وليأخذوا حذرهم الدائم منهم.
وزاد الله خزي المنافقين مرة أخرى، فإنه لما نزل المسلمون عند ماء يقال له "بقعاء" أخذتهم ريح شديدة، استمرت إلى أن زالت الشمس ثم هدأت، وخاف المسلمون أن تكون هذه الريح لمواجهة "عيينة بن حصن" ظنًا منهم أن يهاجم ظهورهم في المدينة، فقال لهم صلى الله عليه وسلم:"ليس عليكم بأس منها فما بالمدينة من نقب إلا عليه ملك يحرسه، وما كان ليدخلها عدو حتى تأتوها، ولكنه مات اليوم منافق عظيم النفاق". وهو "رفاعة بن زيد بن التابوت" وكانت هذه الريح أيضًا بالمدينة حتى دفن عدو الله فسكت.
وقال عبادة بن الصامت يومئذ لابن أبي: مات خليلك.
قال: أي أخلائي.
1 سيرة النبي ج2 ص293.
2 هذه الحادثة هي حادثة الإفك التي سبق ذكرها في ص162-165 عند الحديث عن حسن معاملة رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجاته رضي الله عنهن.