الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3-
موقف المنافقين بعد الغزوة:
سارع المنافقون بالخروج إلى ثنية الوداع حينما ندب النبي صلى الله عليه وسلم لغزوة تبوك.
ويبدو أن خروج المنافقين كان مناورة منهم لتثبيط همة المؤمنين ونشر الذعر بينهم وحتى لا يتهموا بالقعود والنكوص، وظنوا أن بمقدورهم القعود بالجيش كله من الغزو ولذلك ناقشوا كثيرًا في التخلف، وأكثروا من الحلف وهم كاذبون، وبدءوا في إضعاف عزائم المجاهدين مرة ببعد المسافة، وأخرى بقسوة الحر، وثالثة بوعورة الطريق، ورابعة بقوة الروم والأعراب المتحالفين معهم، وكل تلك أمور بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين دعاهم للخروج.
وكان أمل المنافقين القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الإسلام كله، ولذلك خرجوا مع الجيش الإسلامي، وانتهزوا كل ما أمكنهم لتحقيق مآربهم، وأهم أفعالهم:
1-
إنشاء مسجد الضرار:
بنى المنافقون في "ذي أوان" بجوار المدينة مسجدًا يتآمرون فيه، بعدما كانوا يجلسون في الخلاء ويراهم المسلمون، ويطلعون على مكرهم، وخبثهم، وهذا المسجد هو الذي عرف بمسجد الضرار، وقد دعوا الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، فوعدهم بالصلاة معهم فيه حين رجوعه من الغزوة، وأثناء عودته من تبوك نزل عليه قوله تعالى:{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} 1.
1 سورة التوبة: 107-108.
لقد كان المسجد ستارًا للمنافقين عن أعين المسلمين، لكن عين الله لا تنام، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بهدم المسجد، وحرقه، بعدما أمره الله تعالى بعدم الصلاة فيه، وبين له أن سبب تأسيسه هو الإضرار بالمسلمين والكفر بما أنزل الله، وتفريق المسلمين وإيواء أعداء الله ورسوله.
2-
نشر الإشاعات الكاذبة:
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يبقى في أهله، وحينئذ قال المنافقون: ما خلفه محمد إلا خوفًا عليه، ويسرًا به، فلما سمع علي ذلك أخذ سلاحه ولحق بالمسلمين بـ"الجرف" فأعاده النبي صلى الله عليه وسلم وقال له:"كذبوا إنما خلفتك ورائي في أهلي وأهلك".
وأخذ المنافقون يهولون في قوة الرومان، ويستهينون بالمسلمين.
يقول وديعة بن ثابت المنافق: ما لي أرى أصحاب محمد اتسعت بطونهم، وكذب لسانهم، وجبنوا عن اللقاء.
ويقول الجلاس بن سويد المنافق: الرومان سادتنا وعظماؤنا، ولئن كان محمد صادقًا فنحن شر من الحمير.
فقال له عمير رضي الله عنه: أنت شر من الحمير، محمد الصادق وأنت الكاذب.
فلما أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنافقين وسألهم عن أقوالهم السيئة قال وديعة: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب، فأنزل الله فيه:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ، لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} 1.
وجاء الجلاس فحلف أنه ما قال من ذلك شيئًا وأن عميرًا كذب عليه، فأنزل الله فيه قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي
1 سورة التوبة: 65-66.
الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} 1.
فلما نزلت الآية قال الجلاس: عمير صادق وأنا كاذب يا رسول الله وكان للجلاس دية في الجاهلية على بعض قومه، وكان محتاجًا، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أخذها منهم وأعطاها له فاستغنى بها وتاب فتاب الله عليه2.
3-
محاولة قتل النبي صلى الله عليه وسلم:
وفي أثناء الطريق مكر أناس من المنافقين لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة3، فلما بلغوها أرادوا أن يسلكوها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الله بخبرهم فقال صلى الله عليه وسلم للناس:"اسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع"!. ليبعد المنافقين عن مؤامرتهم فسلك الناس بطن الوادي، وسلك صلى الله عليه وسلم العقبة، وأمر عمار بن ياسر أن يأخذ بزمام الناقة يقودها، وأمر حذيفة بن اليمان يسوق خلفه، فغضب المنافقون، وأصروا على سلوك العقبة فأمر صلى الله عليه وسلم حذيفة أن يردهم، فرجع إليهم فجعل يضرب وجوه رواحلهم بمحجن في يده، فانحطوا من العقبة مسرعين حتى خالطوا، الناس فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له أسيد بن حضير: يا رسول الله! ما منعك البارحة من سلوك الوادي، فقد كان أسهل؟
فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا يحيى! أتدري ما أراد البارحة المنافقون وما هموا به؟ قالوا: نتبعه في العقبة، فإذا أظلم الليل عليه قطعوا أنساع راحلتي ونخسوها حتى يطرحوني عن راحلتي "!.
فقال أسيد: يا رسول الله! فقد اجتمع الناس ونزلوا، فمر كل بطن أن يقتل الرجل الذي هم بهذا.
قال صلى الله عليه وسلم: "يا أسيد إني أكره أن يقول الناس إن محمدًا لما انقضت الحرب بينه وبين المشركين وضع يده في قتل أصحابه".
فقال أسيد: يا رسول الله! هؤلاء ليسوا بأصحاب!
1 سورة التوبة: 74.
2 إمتاع الأسماع: ص453.
3 العقبة جبل يعرض للطريق فيجعله مضيقًا، والمراد المضيق في شمال مكة عند "واقص".
قال صلى الله عليه وسلم: "أوليس يظهرون شهادة ألا إله إلا الله"!.
قال: بلى! ولا شهادة لهم!
قال: "أوليس يظهرون أني رسول الله"؟.
قال: بلى! ولا شهادة لهم!
قال صلى الله عليه وسلم: "فقد نهيت عن قتل أولئك"1.
وقد فضح الله المنافقين بنزول الوحي يوضح صفاتهم، ويبين أكاذيبهم، ويحدد منزلتهم السافلة، وخلقهم الرديء.
فإنهم لما اعتذروا لعدم الاستعداد قال الله عنهم {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} 2.
وحتى يعرف المؤمنون أن في تخلف المنافقين خيرًا قال الله تعالى: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} 3.
وحتى لا يغتر المسلمون بمظهر المنافقين قال تعالى: {فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} 4.
وحتى لا يصدق المسلمون أيمانهم قال تعالى: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} 5 ويقول تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ} 6.
وقال تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ
1 إمتاع الأسماع ج1 ص477.
2 سورة التوبة: 46.
3 سورة التوبة: 47.
4 سورة التوبة: 55.
5 سورة التوبة: 56.
6 سورة التوبة: 62.
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} 1.
لقد رد الله أقوال المنافقين جميعًا، وبين طوايا قلوبهم، وخبايا نفوسهم، فقال تعالى:{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} 2 وقال تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 3، وقال تعالى:{الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4، وقال تعالى:{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 5.
وهكذا:
فضح الله النفاق والمنافقين، وبرزت سيم الإيمان والجهاد، وظهرت معالم الحياة أمام البصائر والأبصار.
1 سورة التوبة: 96.
2 سورة التوبة: 58.
3 سورة التوبة: 61.
4 سورة التوبة: 79.
5 سورة التوبة: 94.