الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ، عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ، لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ، لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ، وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} 1، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءة هذه الآيات، لم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب2.
1 سورة يس: 1-9.
2 سيرة ابن هشام ج1 ص480.
ثانيًا: التخطيط للهجرة
قدرة الله غالبة، وأمره سبحانه وتعالى نافذ، وكان من اليسير أن يزيل الكفر والكافرين بـ:"كن"، لكن إرادة الله قضت بجريان أمور الدعوة على عادة البشر وسنن الحياة، ليتملى المسلمون حركة القدرة الإلهية، وينظروا في مسار الأمور اعتبارًا وعظة، ولذلك كانت الهجرة عملا بشريًا، راعت كافة الاحتمالات، ورسمت منهجًا للحركة الصحيحة، وقد أعان الله تعالى رسوله والمسلمين على النجاح، وقدر لهم أن يتم أخطر عمل في حياة المسلمين بفكر البشر، ليكون دليلا للمستقبل ومبدأ للتأسي، وقد عالجت الخطة جميع الجوانب التي نلحظها في الأمور التالية:
1-
الإعداد المسبق للهجرة:
أعد الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة عدتها قبل أن يتحرك من بيته.
تقول عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن يومًا جلوس في بيت أبي بكر في نحر1 الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء متقنعًا2 في ساعة لم يكن يأتينا فيها!
1 أي أول الزوال، وهو أشد ما يكون في حرارة النهار.
2 أي مغطيًا رأسه من شدة الحرارة.
فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. تقول عائشة: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأذن له.
فلما دخل صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر: "أخرج من عندك".
فقال أبو بكر: إنما هم أهلك1 بأبي أنت يا رسول الله.
قال صلى الله عليه وسلم: "فإني قد أذن لي في الخروج".
فقال أبو بكر: الصحابة2 بأبي أنت يا رسول الله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم".
قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بالثمن"3.
قالت عائشة: فجهزناهما أحث الجهاز4 وصنعنا لهما سفرة في جراب5.
وقد نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الهجرة وحدد لجميع من سيساعده دوره وعمله، كما سيتضح ذلك من عمل علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وعبد الله بن أبي بكر، وعامر بن فهيرة، وعبد الله بن أريقط، وأسماء بنت أبي بكر.
2-
مبيت علي رضي الله عنه على فراشه صلى الله عليه وسلم:
لما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة وعلمت قريش ذلك، وخافت على نفسها من أثر إيجاد قوة للمسلمين خارج مكة، قررت قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفق الخطة التي قرروها في اجتماع دار الندوة.
وفي الليلة التي عزم الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة فيها، تجمع فتيان قريش حول
1 أراد بذلك عائشة وأسماء، والمقصود أنهم من أهل دينك فلا تخش منهم، كما جاء في رواية موسى بن عقبة ففي روايته:"أخرج من عندك"، قال: لا عين عليك، إنما هما ابنتاي.
2 أي أريد مصاحبتك يا رسول الله.
3 مع أن أبا بكر أنفق الكثير من ماله على الدعوة ورسولها، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرص على دفع الثمن حتى لا تكون هجرته إلا من مال نفسه.
4 أفعل تفضيل من الحث وهو الإسراع، والجهاز: ما يحتاج إليه في السفر.
5 أي زادًا في جراب، وأصل السفرة الزاد ثم استعملت في وعاء الزاد، وإنما أرادت السيدة عائشة من اللفظة هنا أصلها اللغوي.
بيت النبي، يرصدونه حتى ينام، فيثبون عليه، فأخبر جبريل عليه الصلاة والسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمؤامرة القوم، وأمره أن لا يبيت هذه الليلة على فراشه الذي يبيت عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب:"نم على فراشي، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر، فنم فيه فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم"1.
ولقد نجحت هذه الخطة نجاحًا واضحًا، فلقد رأى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخرج من بيته، ويضع على رءوسهم التراب، فجاء للفتيان وقال لهم: خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك فيكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، أفما ترون ما بكم؟
فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب فظنوه بسبب الريح، أو بغيره، ولم يصدقوا الرجل في مقالته، واستمروا على ظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخرج لرؤيتهم رجلا على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا ينظرون في الفراش بين الفينة والفينة فيجدون شخصًا مسجًا ببرد رسول الله، فيظنونه نائمًا ولذلك استمروا في مكانهم.
فلما جاء الصباح، وقام علي من نومه وخرج عليهم، علموا أنهم قد خدعوا، وقال بعضهم لبعض: لقد صدقنا الذي حدثنا2.
ونلاحظ دقة التخطيط وحسن الاختيار في مبيت علي رضي الله عنه مكان رسول الله، فلقد اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أخيه لينام مكانه لما في مبيته من تضحية، والموت فيها وارد، وما دام الأمر هكذا فلتكن التضحية بالأهل والأقارب أما في صحبة الهجرة فلقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضي الله عنه ليعلم الجميع أن غاية رسول الله صلى الله عليه وسلم تبليغ رسالته التي كلف بها، ولو كان يقصد الزعامة لأخذ نفرًا من قبيلته مثل علي بن أبي طالب، أو حمزة بن عبد المطلب أو غيرهما.
ومن قدر الله أن الرجال الذين أحاطوا ببيت النبي صلى الله عليه وسلم انصرفوا عن اقتحامه وبقوا خارج الدار حتى الصباح، ولم يتعجل أهل مكة خبر مقتل محمد مع أن
1 تهذيب السيرة ص112.
2 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص483 بتصرف.
رجالهم جاءوا واستعدوا لتحقيق هذه الغاية.
يذكر السهيلي أن الرجال حينما هموا بالدخول لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعوا صياح امرأة من داخل الدار، فقال بعضهم لبعض: والله إنها لسبة في العرب أن يتحدث الناس عنا أنا تسورنا الحيطان على بنات العم، وهتكنا ستر حرمتنا1.
وهكذا جرى قدر الله، وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم ليلا إلى دار أبي بكر، وصرف الله أهل مكة عن حراسة الطرق المؤدية إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنًا منهم أنهم أحكموا الخطة، ولن يتمكن محمد صلى الله عليه وسلم من الخروج من بيته ورجالهم يحيطون به.
ووصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فاصطحبه وذهبا سويًا إلى الغار.
3-
الوصول إلى غار ثور:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من داره ليلا وذهب مسرعًا إلى دار أبي بكر فوجده مستعدًا للرحيل، فخرجا سويًا من خوخة في ظهر بيت أبي بكر، وسارا معًا في نفس الليلة إلى الغار المتفق على الاختباء فيه، وعندما وصلا إلى الغار طلب أبو بكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتظر حتى يدخل هو الغار ينظر ما فيه، وذلك من باب الحرص على سلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلربما كان في الغار حيوان مؤذ، يتصدى له أبو بكر فداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
عن ابن أبي مليكة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج هو وأبو بكر إلى ثور فجعل أبو بكر يكون أمام النبي صلى الله عليه وسلم مرة، وخلفه مرة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: إذا كنت خلفك خشيت أن تؤتى من أمامك، وإذا كنت أمامك خشيت أن تؤتى من خلفك حتى انتهيا إلى الغار من ثور، قال أبو بكر: قف كما أنت حتى أدخل يدي فأحسه، وأقصه، فإذا كانت فيه دابة أصابتني قبلك. قال نافع2: فبلغني أنه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوفًا أن تخرج منه دابة، أو شيء يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي الوصول للغار نلحظ الأعمال التالية:
- فلقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر من الخوخة خلف البيت ليبتعدا عن أعين
1 الروض الأنف ج1 ص229.
2 هو نافع بن عمر الجمحي الراوي عن ابن أبي مليكة.
القرشيين الذين يعملون على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم1 ومن المحتمل اهتمامهم بمراقبة بيت أبي بكر في هذه اللية الحاسمة.
- التحرك السريع ليلا فلقد وصل النبي وأبو بكر إلى الغار في نفس الليلة التي خرج فيها الرسول من بيته، مع أن جبل ثور يقع جنوب مكة بخمسة أميال، والطريق إليه وعر وشاق.
- الاتجاه نحو الجنوب جهة اليمن مع أن المدينة جهة الشمال؛ لأن القرشيين عندما يدركون هرب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيبحثون عنه في كل أنحاء مكة، وبخاصة جهة المدينة المنورة التي هاجر إليها المسلمون.
يقول المباركفوري: ولما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشًا ستجد في الطلب، وأن الطريق الذي ستتجه إليه الأنظار لأول وهلة هو طريق المدينة الرئيسي، المتجه شمالا، فقد سلك الطريق الذي يضاده تمامًا، وهو الطريق الواقع جنوب مكة، والمتجه نحو اليمن
…
نعم سلك النبي صلى الله عليه وسلم هذا الطريق وسار فيه نحو خمسة أميال حتى بلغ إلى جبل يعرف بجبل ثور، وهو جبل شامخ، وعر الطريق، صعب المرتقى، ذو أحجار كثيرة2.
- المكث في الغار ثلاثة أيام، وهي المدة التي سوف ينشط فيها القرشيون للبحث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيها سيجندون الرجال، ويبحثون في كافة الجهات، ومن المنتظر أنهم بعد ثلاثة أيام سيصابون بالإحباط، ويهدءون.
- أمر الرسول صلى الله عليه وسلم مولى أبي بكر عامر بن فهيرة أن يرعى غنمه بالنهار، ويسير بها حيث سار الرسول وصاحبه لتنمحي آثارهما، فلا يستطيع أحد اقتفاء أثرهما، وقد قام عامر بن فهيرة بما كلف به خير قيام.
4-
البقاء في الغار:
استقر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر في الغار، ونشط المكيون في البحث عن محمد صلى الله عليه وسلم بعدما فر منهم، ورصدوا لمن يأتي به حيًا، أو ميتًا مائة من الإبل، ولم
1 الخوخة وهي فتحة ضيقة كانت في ظهر بيت أبي بكر تجهد من يخرج منها، ويحتاج الخارج منها إلى مساعدة وعون.
2 الرحيق المختوم ص164 طبع ونشر دار السلام، الرياض سنة 1993م.
يقصروا في السعي فلقد أحضروا رجالا يقتفون الأثر، يقودونهم إلى الناحية التي سار فيها محمد صلى الله عليه وسلم وتتبع الدليل أثر الرسول وأبي بكر، فوجد أنهما أخذا طريق اليمن، وساروا فيه حتى وصلوا إلى غار ثور وتوقفوا، فأخذ القرشيون يفتشون في جبل ثور حتى وصلوا إلى الغار، ونظروا فيه فوجدوا على بابه نسيج العنكبوت، وحمامتين مع بيضهما في عشهما، فقالوا: لو دخل محمد هاهنا لانهدم بيت العنكبوت ولضاع عش الحمامة وانكسر بيضها!!
ونظر أبو بكر فرأى رجلا مواجهًا للغار فقال: يا رسول الله إنه ليرانا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلا إن الملائكة تسترنا بأجنحتها".
فجلس الرجل وبال جهة الغار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كان يرانا ما فعل ذلك1.
واشتد خوف أبي بكر رضي الله عنه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم لو نظر أحدهم تحت أقدامه لرآنا!! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اسكت يا أبا بكر، ما بلك باثنين الله ثالثهما"2.
واستمر الرسول في الغار ثلاثة أيام بعيدًا عن الناس إلا أن التخطيط الذي وضعه الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة جعله يحيط بكل ما يدور بين المكيين، ويسهل له وصول كل ما يحتاجه من سبل الحياة وأخبار الناس.
- فلقد أمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمع ما يقوله الناس في النهار على أن يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساء بما كان في ذلك اليوم من خبر.
- وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام والشراب بما يصلحهما إذا أمست.
- وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى الغنم بالنهار على أن يأتي بالغنم الغار ليلا ليسقيهما لبنًا، وليعفو أثر عبد الله وأسماء.
وبعد أن مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في الغار ثلاثة أيام سكن الناس، وشعروا أن محمدًا فر بعيدًا عن مكة، فأتاهما عبد الله بن أريقط الذي استأجره الرسول دليلا
1 بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد باب الهجرة ج6 ص66، 67.
2 صحيح البخاري كتاب المناقب باب الهجرة ج6 ص221.
للهجرة ومعه بعيراهما وثالث له، وأتتهما أسماء بزاد السفر الذي لم تجعل له حبلا يعلق به، فشقت نطاقها نصفين جعلت أحدهما حبلا للزاد فسميت بذات النطاقين لذلك1.
5-
في الطريق إلى المدينة:
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار بعد ثلاثة أيام، وقادهما الدليل إلى حيث يقصدون بكل أمان وصدق، وسيطر الحذر على الركب الكريم في مسيرته، وبرزت مواقف عديدة صنعها القدر الإلهي، وأبقاها عبرة، وعظة للناس، وأهم هذه المواقف ما يلي:
- استفاد الرسول صلى الله عليه وسلم في الهجرة بخبرة رجل مشرك هو عبد الله بن أريقط، وأستأجره ليكون الدليل لمعرفته بالطرق ومساراتها، وهذا أمر جائز شرعًا لتعين الرجل لذلك العمل وعدم وجود أحد من المسلمين للقيام بهذا الدور، وأيضًا فإن في اختيار رجل مشرك لقيادة الرحلة من الأمور التي تعمي على أهل مكة طريق الهجرة لأنهم لا يتصورون مشركًا يقود محمدًا وصحبه في الطريق.
- لم يسلك الركب الطريق إلى المدينة بعد الخروج من الغار وإنما أمعن في الاتجاه إلى الجنوب، ثم اتجه غربًا نحو الساحل حتى إذا وصل إلى طريق لم يألفه الناس اتجه شمالا على مقربة من شاطئ البحر الأحمر.
- إن الطرق بين مكة والمدينة وعرة، موحشة، لا يرى فيها المسافر ما يخفف عناء السفر من زرع وماء، وأساسها طريقان:
أحدهما شرقي محاذ لبلاد نجد.
والآخر: غربي محاذ لساحل البحر الأحمر.
وقد اختار الدليل الطريق الثاني. بيد أنه لم يسلك جادة هذه الطريق طوال الرحلة بل كان يلتوي هنا وهناك تفاديًا من أن يلحقهم من يقفوا أثرهم من القرشيين ممن كان يطمع في الحصول على الجائزة التي قررتها قريش لمن يأتي بالرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد وصف ابن هشام الطريق الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه من جبل ثور إلى المدينة لإظهار مدى التخفي والاستتار الذي سلكه الدليل بركب الهجرة، فقال: إن
1 السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص485، 486 بتصرف وقد أورد البخاري قصة الهجرة في حديث طويل رواه عن عائشة رضي الله عنها. انظر كتاب المناقب من صحيح البخاري ج69 ص206-210 ط الأوقاف.
عبد الله بن أريقط سلك بهما أسفل مكة، ثم مضى بهما إلى الساحل، حتى عارض الطريق أسفل عسفان1، التي تبعد عن مكة بستة وثلاثين ميلا، ثم سلك بهما الدليل على أسفل أمج2 ثم استجاز بهما الدليل حتى عارض الطريق بعد أن جاوز قديد، ثم سلك الخرار3، وهو واد يقع في نحو منتصف الطريق بين مكة والمدينة، ثم أخذ بهما الحداجد4، وتقع في أرض مستوية صلبة، ثم هبط بهما العَرِج5. ثم هبط وادي العتيق الذي يؤدي إلى المدينة6.
كان أبو بكر رضي الله عنه خير صديق يصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فلقد قام بحراسته وخدمته ومساعدته خير قيام.
يروي البراء بن عازب حديث الهجرة فيقول رضي الله عنه: ابتاع أبو بكر من عازب رحلا فحملته معه، فسأله عازب عن مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال له أبو بكر: أخذ علينا بالرصد، فخرجنا ليلا، فأحثثنا ليلتنا ويومنا حتى قام قائم الظهيرة، ثم رفعت لنا صخرة، فأتيناها ولها شيء من ظل، ففرشت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فروة معي، ثم اضطجع عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقت أنفض ما حوله فإذا أنا براع قد أقبل في غنيمة، يريد من الصخرة مثل الذي أردنا.
فسألته: لمن أنت يا غلام؟
فقال: أنا لفلان.
فقلت له: هل في غنمك من لبن؟
قال: نعم.
1 بضم أوله وسكون ثانيه ثم فاء وآخره نون وهي قرية صغيرة قريبة من ساحل البحر الأحمر على حد تهامة على طريق المدينة، يكثر بها النخيل والمزارع، وسميت عسفان لتعسف الطريق، ويسمى الطريق بين عسفان وملل الساحل.
2 أمج بفتح الهمزة والجيم بلد صغير بين مكة والمدينة.
3 بفتح الخاء وتشديد الراء: موضع بالحجاز قرب الجحفة. معجم ما استعجم للبكري ج2 ص492.
4 جمع حدجد وهي الأرض المستوية الصلبة، ويجوز أن يكون جمع حدجد وهي البئر القديمة، ويظن ياقوت الحموي في معجمه أنها آبار قديمة.
5 بفتح أوله وسكون ثانيه وجيم: منزل بطريق مكة على طريق الحاج.
6 سيرة النبي لابن هشام ج1 ص491 بتصرف.
قلت له: هل أنت حالب؟
قال: نعم.
فأخذ شاة من غنمه فقلت له: انفض الضرع.
فحلب كثبة من لبن، ومعي إداوة من ماء عليها خرقة قد روأتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصببت على اللبن حتى برد أسفله، ثم أتيت به النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رضيت.
ثم قلت: قد آن الرحيل يا رسول الله.
قال: "بلى". فارتحلنا والقوم يطلبوننا، فلم يدركنا أحد منهم غير سراقة بن مالك بن جعشم على فرس له.
فقلت: هذا الطلب قد لحقنا يا رسول الله.
فقال: "لا تحزن إن الله معنا"1.
والحديث واضح الدلالة في دور أبي بكر خلال رحلة الهجرة، فلقد كان رضي الله عنه يبحث لرسول الله عن ظل عند الظهيرة يأوى إليه، ويسوي له المكان، وكان يقوم بحراسة النبي صلى الله عليه وسلم، ويراقب له الطرق، وكان يعد له الطعام، ويبرد له الشراب، ويسقيه اللبن، وكان دائم الخوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان يلتفت كثيرًا والرسول يقول له:"لا تحزن إن الله معنا"، وكان أبو بكر شيخًا معروفًا للعرب، مصدقًا لديهم يقابله أحدهم ويسأله: من هذا الرجل الذي معك؟
فيرد أبو بكر: هذا الرجل يهديني الطريق. فيظن السائل أنه طريق المدينة، بينما هو طريق الإسلام والرجل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم2.
لقد قام أبو بكر رضي الله عنه بدوره خير قيام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أثناء الهجرة، وكان حبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يملك عليه جوارحه وحياته كلها، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة وقال: "إن من أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت
متخذًا خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته"3.
يذكر عمر بن الخطاب ليلة الهجرة فيقول: والذي نفسي بيده لتلك الليلة لأبي بكر خير من آل عمر4.
1 صحيح البخاري كتاب المناقب، باب الهجرة ج6 ص219، 220.
2 صحيح البخاري كتاب المناقب ج6 ص215 ط الأوقاف.
3 صحيح البخاري كتاب فضائل الصحابة ج6 ص79 ط الأوقاف.
4 سيرة ابن كثير ج2 ص237.