الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رابعًا: إقامة المسجد النبوي
استقر مقام النبي صلى الله عليه وسلم عند أبي أيوب قريبًا من المكان الذي بركت فيه الناقة، وكان مبرك الناقة مربدًا لبني النجار دفن المشركون في جزء منه، وفي جزء آخر نخل وشجر، والباقي خراب يملؤه ماء السيول والأمطار.
أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني النجار وقال لهم: ثامنوني على حائطكم هذا. فقالوا: والله لا نطلب ثمنه إلا من الله تعالى.
وكان المربد مملوكًا لغلامين يتيمين من بني النجار هما: سهل وسهيل أبناء رافع بن أبي عمرو، وكانا في حجر أسعد بن زرارة، فدعاهما الرسول وساومهما على شراء المربد ليتخذه مسجدًا.
فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة، واستمر معهما حتى ابتاعه ليكون مسجدًا فلما اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالنخل فقطع، وبالقبور فنبشت، وبالعظام فغيبت، وبالخرب فسويت، وبما فيه من مياه فجففت، وبذلك أصبح المكان جاهزًا للبناء فيه.
أخذ الصحابة في البناء، ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن ويقول:
اللهم إن الأجر أجر الآخرة
…
فاغفر للأنصار والمهاجرة1
وأدى اشتراك رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل جميع الصحابة إلى بذل الجهد، وتحمل مشاق العمل بنفس راضية.
رأى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع رداءه ويحمل اللبن، حتى أن صدره اغبر من التراب فوضعوا أرديتهم وأكسيتهم وجعلوا يرتجزون ويعملون ويقولون:
لئن قعدنا والني يعمل
…
ذاك إذا العمل المضلل
وفي أثناء العمل رأى الصحابة عثمان بن مظعون رضي الله عنه يحمل لبنة، ويبعدها عن
1 صحيح البخاري كتاب المناقب باب مقدم النبي المدينة ج6 ص227.
ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه، ونظر إلى ثوبه فإذا أصابه غبار نفضه، فنظر إليه علي ابن أبي طالب وقال:
لا يستوي من يعمر المساجدا
…
يدأب فيها قائمًا وقاعدا
ومن يرى عن الغبار عائدا
فسمع عمار بن ياسر مقالة علي، فأخذ يرددها، وهو لا يدري من يعني بها علي رضي الله عنه فسمعه عثمان بن مظعون فظن أنه يعرض به فقال له: يابن سمية ما أعرفني بمن تعرض.
وكان مع عثمان جريدة فقال لعمار: لتكفن أو لأعرضن بها وجهك.
فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وقال: "إن عمار بن ياسر جلدة ما بين عيني وأنفي، ووضع يده بين عينيه"، فكف الناس عن عمار إلا أنهم قالوا له: إن النبي غضب فيك، ونخاف أن ينزل فينا قرآن.
فقال عمار: أنا أرضيه كما غضب.
فذهب عمار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ما لي ولأصحابك؟.
فقال صلى الله عليه وسلم: "ما لك ولهم"؟.
قال عمار: يريدون قتلي يحملون لبنة لبنة، ويحملون علي لبنتين لبنتين.
فأخذ النبي بيده وطاف به المسجد، وأخذ يمسح جلد رأسه بيديه من التراب وهو صلى الله عليه وسلم يقول:"يابن سمية ليسوا بالذين يقتلونك، تقتلك الفئة الباغية تدعوهم إلى الجنة، ويدعونك إلى النار".
فقال عمار: أعوذ بالله من الفتن1.
يروي البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحملون لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل ينفض التراب ويقول:"ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار"2.
1 سبيل الهدى والرشاد ج3 ص487، 488.
2 صحيح البخاري كتاب الصلاة، باب الحدث في المسجد ج1 ص302.
وكان الرسول يعلم ذلك مما يؤكد أن قول عمار لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحابك يريدون قتلي هي من الدعابة مع رسول الله ليذهب عنه الغضب.
وقد حاول الصحابة أن يستريح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمل فأبى، يقول أسامة بن زيد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ومعه حجر يحمله على كتفه فلقيه أسيد بن حضير فقال أسيد: يا رسول الله أعطينيه.
فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اذهب فاحتمل غيره فإنك لست بأفقر إلى الله مني"1.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكل الأعمال التي تحتاج لخبرة إلى من يملك هذه الخبرة، فلقد جاء طلق بن علي، وهو رجل من بني حنيفة، يحسن عجين الطين، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:"إن هذا الحنفي لصاحب طين، قربوا الحنفي من الطين، فإنه أحسنكم له سبكًا، وأشدكم منكبًا"2.
وكانت سعة المسجد حين بناه النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة سبعين ذراعًا، في ستين أو يزيد، وجعل جدره من خشب، ولم يسطح، فلما اشتكى الصحابة الحر والمطر، جعل صلى الله عليه وسلم جدره من الخشب، والسواري من جذوع النخل، وظللوه بالخوص والجذوع، فكان الظل ثم طينوه بالطين فانقطع المطر، وأبقوا وسط المسجد رحبة بلا سقف.
وقبلة المسجد كانت أولا إلى بيت المقدس جهة الشمال، وأسسوا له ثلاثة أبواب في مؤخرته هي:
أ- باب أبي بكر جنوب المسجد وهو الآن جهة القبلة بعدما حولت إلى مكة وصار بعد التوسعة العثمانية جزءا داخل المسجد.
ب- باب عاتكة وهو باب الرحمة ويقع غرب المسجد داخل توسعة الملك فهد.
ج- باب النبي وهو الباب الذي كان يدخل منه النبي صلى الله عليه وسلم ويعرف بباب عثمان.
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص489.
2 الإصابة في معرفة الصحابة ج3 ص538.
وقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد ليكون موضعًا للصلاة، ومكانًا لاجتماعه صلى الله عليه وسلم مع أصحابه، ومقر الحكم والإدارة، ومنطلق الدعوة والإرشاد.
وبعد فتح خيبر أعاد النبي صلى الله عليه وسلم بناء المسجد مرة ثانية وزاد مساحته لأن أبعاده في البناء الثاني صارت مائة ذراع في مائة ذراع وقد قام عثمان بن عفان بشراء المساحة الجديدة وأهداها لمسجد النبي صلى الله عليه وسلم1.
ولم يغال النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد، ولا في زخرفته، بل كان القصد وترك الغلو، فبنى المسجد باللبن، وسقف بالجريد، وكانت أعمدته سيقان النخل، وقوائم الباب من الحجارة.
واتخذ النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه منبرًا هو جذع نخلة حن يوم اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم منبرًا من الخشب مكونًا من ثلاث درجات.
واستمر المسجد على ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن كانت خلافة عمر فزاد مساحته وبناه باللبن والجريد فلما كان عثمان زاد فيه مساحة كبيرة، وبنى عمده وجدره بالحجارة المنقوشة، وسقفه بالساج.
يروي البخاري بسنده عن ابن عمر أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت سواريه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من جذوع النخل، وأعلاه مظلل بجريد النخل.
ثم إنها نخرت في خلافة أبي بكر فبناه بجذوع النخل ولم يزد فيه وزاد فيه عمر وبناه بمواده في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن، والجريد، وأعاد عمده خشبًا.
ثم إنها نخرت في خلافة عثمان فزاد فيه زيادة كبيرة، وبنى جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقوشة، وسقفه بالساج، ونقل إليه الحصباء من العقيق2.
وأخذ الخلفاء والسلاطين يهتمون بالمسجد النبوي بناء، ومساحة، حتى كانت الدولة السعودية الثالثة، فتوسع المسجد مرتين، الأولى في عهد الملك سعود بن
1 سبل الهدى والرشاد ج3 ص491.
2 السيرة النبوية في ضوء الكتاب والسنة ص125.
عبد العزيز، والثانية في عهد أخيه الملك فهد بن عبد العزيز حتى بلغت مساحة المسجد مساحة المدينة كلها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد قام المسجد النبوي بمهام خطيرة، ففيه بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤم المسلمين، ويلتقي بهم، وكان صلى الله عليه وسلم يلتقي بالوفود، والغرباء بداخله.
وقد أدرك المسلمون أهمية المسجد النبوي لما فيه من كثرة البركة، وعظم الخير كما علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى"1.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام"2.
وعن عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي"3.
والمسلمون في كل عصر، ومن كل مصر يشدون رحالهم إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتشرفون بالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعاودهم الذكريات الخالدة، ويعيشون حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
1 صحيح مسلم بشرح النووي باب فضل المساجد الثلاثة ج3 ص541 ط الشعب.
2 صحيح مسلم بشرح النووي باب فضل المساجد الثلاثة ج3 ص537 ط الشعب.
3 صحيح البخاري كتاب الحج باب حدثنا مسدد ج3 ص284.