الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ب-
موقف القرشيين:
أرسلت قريش عيرها إلى الشام، في قافلة ضخمة، بقيادة أبي سفيان بن حرب، وكانت القافلة مكونة من ألف بعير، فيها أموال عظام، ولم يبق بمكة قرشي، ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في هذه العير، فأدركهم رجل من جذام بـ"الزرقاء"1 من ناحية "معان"2 -وهم منحدرون إلى مكة- فأخبر أبا سفيان أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان قد عرض لغيرهم في بدأتهم، وأنه تركه مقيمًا ينتظر رجعتهم، وقد حالف أهل الطريق، ووادعهم، فخرجوا خائفين الرصد، وبعثوا "ضمضم بن عمرو" حين فصلوا من الشام، وأمره أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية أن يخبر قريشًا أن محمدًا قد عرض لغيرهم، وأمره أن يجدع بعيره إذا دخل مكة، ويحول رحله، ويشق قميصه من قبله ودبره، ويصيح: الغوث الغوث.
فلم يرع أهل مكة إلا وضمضم يقول: يا معشر قريش! يا آل لؤي بن غالب اللطيمة اللطيمة! قد عرض لها محمد في أصحابه، الغوث الغوث! والله ما أرى أن تدركوها، وقد جدع أذني بعيره، وشق قميصه، وحول رحله، فلم تملك قريش من أمرها شيئًا حتى نفروا على الصعب والذلول، وتجهزوا للحرب في ثلاثة أيام، وأعان قويهم ضعيفهم، وقام سهيل بن عمرو، وزمعة بن الأسود، وطعيمة بن عدي، وحنظلة بن أبي سفيان، وعمرو بن أبي سفيان، يحضون الناس على الخروج.
فقال سهيل: يا آل غالب، أتاركون أنتم محمدًا والصباة من أهل يثرب يأخذون عيراتكم وأموالكم؟ من أراد مالا فهذا مالي، ومن أراد قوة فهذه قوتي، فمدحه أمية بن أبي، وأيده في تهييج أهل مكة.
ومشى نوفل بن معاوية الديلمي إلى أهل القوة من قريش، فكلمهم في بذل النفقة والحملان، لمن خرج، فقال عبد الله بن أبي ربيعة: هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت
1 الزرقاء تأنيث الأزرق موضع جنوب الشام جهة معان.
2 معان بفتح الميم أو ضمها وهي مدينة في طرف بلاد الشام الدنيا.
وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار، وثلاثمائة دينار لتقوية السلاح، والظهر.
وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرًا، وقواهم، وخلفهم في أهله بمعونة ومال، ولم يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعيثًا، فلما مشوا إلى أبي لهب أبى أن يخرج، وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وكان مدينًا له بأربعة آلاف درهم.
قال أبو لهب للعاص: اخرج، وديني لك فخرج عنه وتحمل أبو لهب ما وعد به. واستقسم أمية بن خلف، وعتبة، وشيبة، عند هبل بالآمر بالخروج والناهي عنه فخرج القدح الناهي، وأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل واستقسم زمعة بن الأسود فخرج الناهي أيضًا، وكذلك خرج لعمير بن وهب، وخرج حكيم بن حزام وهو كاره لمسيره، بعدما خرج له القدح الناهي مثل غيره، فلما نزلوا مر الظهران نحر أبو جهل جزرًا وزعها عليهم، فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها وأخذ عداس يخذل شيبة، وعتبة بن ربيعة، والعاصي بن منبه بن الحجاج، وأبا أمية بن خلف فأتاه عقبة بن أبي معيط، وأبو جهل فعنفاه.
فقال: ابتاعوا لي أفضل بعير في الوادي، فابتاعوا له جملا بثلاثمائة درهم من نعم بني قشير، فخرج بها مع الجيش، أملا في أن يفر بها حين الهزيمة التي يتوقعها، وأقبل القرشيون في تجمل عظيم، وحنق زائد، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يريدون من أخذ عيرهم وتجرؤهم على قوافلهم ورجالهم1.
وكانت عاتكة بنت عبد المطلب قد رأت رؤيا قبل مجيء ضمضم بثلاث ليال، رأت راكبًا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح، ثم صرخ بأعلى صوته: ألا انفروا يالغدر لمصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حوله قام به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ بمثلها، ثم قام به على رأس جبل أبي قبيس فصرخ بمثلها، ثم أخذ صخرة فرماها فتفتتت ودخلت كل بيوت مكة
…
وعاشت الرؤيا في مكة وخاف منها الكثير غير أبي جهل فإنه سخر منها2.
1 إمتاع الأسماع ج1 ص66.
2 سيرة النبي ج1 ص607.
فكان عمرو بن العاص يحدث فيقول: لقد رأيت كل هذا، ولقد رأيت في دارنا فلقة من الصخرة التي انفلقت من أبي قبيس، فلقد كان ذلك عبرة، ولكن الله لم يرد أن نسلم يومئذ فأخر إسلامنا إلى ما أراد.
ولم يدخل دارًا ولا بيتًا من دور بني هاشم ولا بني زهرة من تلك الصخرة شيء1. تمكن أبو سفيان من الإفلات بالقافلة؛ لأنه علم بخروج المسلمين للاستيلاء عليها فلما اقترب من بدر أخذ طريق الساحل، بعد أن علم بوصول المسلمين إليها، ذلك أنه كان يسير على الطريق الرئيسي حذرًا متيقظًا، وقد ضاعف حركاته الاستكشافية.
ولما اقترب من بدر تقدم عيره، حتى لقي "مجدي بن عمرو" وسأله عن جيش المدينة، فقال: ما رأيت أحدًا أنكره، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل، ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا.
فبادر أبو سفيان إلى مناخهما، فأخذ من أبعار بعيرهما، ففته، فإذا فيه النوى، فقال: هذه والله علائف يثرب، فرجع إلى عيره سريعًا، وضرب وجهها محولا اتجاهها نحو الساحل غربًا، تاركًا الطريق الرئيسي الذي يمر ببدر على اليسار، وبهذا نجا أبو سفيان بالقافلة من الوقوع في قبضة جيش المدينة، وأرسل رسالته إلى جيش مكة التي تلقاها القرشيون عند وصولهم إلى الجحفة2.
وخرج الجيش القرشي، بعدته، وعتاده، وقد بلغ عدده تسعمائة وخمسين رجلا، بقيادة عدد من صناديد مكة، وكان معهم مائتا فرس، وعدد كبير من الإبل لركوبهم، وحمل أمتعتهم ومئونة طعامهم، وليتاجروا فيها، وفي أحمالها، بعد تحقيق النصر الذي تصوروه مؤكدًا.
وقبل أن يتحرك جيش الشرك أخذ القرشيون لأنفسهم الأمان من "كنانة" بعدما قال لهم مالك بن جعشم المدلجي، وهو من أشراف كنانة:"أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه".
1 المغازي ج1 ص29.
2 المغازي ج1 ص30.
وقد كره أهل الرأي أن يخرجوا للقتال بعد نجاة القافلة، ومشى بعضهم لبعض في ذلك إلا أن دعاة الحرب، وعلى رأسهم أبو جهل "عمرو بن هشام" جعلوا يحرضون على الخروج، ويحضون على القتال، حتى تمكنوا من غايتهم، ولم يخالفهم إلا بنو زهرة وبنو عدي ونفر من بني هاشم.
أما بنو زهرة فقد قال لهم الأخنس بن شريك حليفهم: يا بني زهرة قد نجى الله أموالكم، وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله، فاجعلوا بي جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة لكم أن تخرجوا في غير منفعة، لا كما يقول هؤلاء فرجعوا، وكانوا نحو المائة، ويقال ثلاثمائة، فما شهدها زهري إلا رجلين هما عما مسلم بن شهاب الزهري، وقتلا كافرين ببدر.
واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا.
وأما بنو عدي بن كعب فقد خرجوا مع الجيش حتى وصلوا إلى ثنية "لفت"1 وهي مكان بين مكة والمدينة، فعدلوا في السحر إلى الساحل منصرفين إلى مكة، فقابلهم أبو جهل فقال لهم: يا بني عدي كيف رجعتم؟ لا في العير ولا في النفير؟
قالوا: أنت أرسلت إلى قريش أن ترجع، فرجعنا.
وأما بنو هاشم: فإنهم لما أزمعوا التخلف قال لهم أبو جهل: لا تفارقنا هذه العصابة منكم حتى نرجع.
ولم يترك أبو جهل شخصًا من مكة، كارهًا للخروج، أو مسلمًا يعلمون إسلامه ولا أحدًا من بني هاشم إلا وأشخصوه معهم بما بذلوه من جهد وحيلة، وكان على رأس من أخذوهم معهم: العباس بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث، وطالب بن أبي طالب، وعقيل بن أبي طالب، وأبو العاص بن الربيع.
وقد حاول أبو سفيان صرف قريش عن الخروج، فأرسل إليهم رسالة حملها قيس بن امرئ القيس، وجاء فيها:"إنكم خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها لله فارجعوا"2.
1 لفت بفتح أوله وسكون ثانية موضع بين مكة والمدينة.
2 المغازي ج1 ص43.
فلما علم أبو جهل بالرسالة قال: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا فنقيم ثلاثًا فننحر الجزر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدًا بعدها.
وواصل جيش قريش مسيرته نحو بدر حتى وصل إلى العدوة القصوى فبات عندها. وقد قام القرشيون بعدد من العمليات عند بدر استعدادًا للقتال، إلا أن الله تعالى أخزاهم، وجعل تخطيطهم وسعيهم وبالا عليهم، يتضح ذلك من أعمالهم التالية:
1-
اختيار المكان:
اختار القرشيون لأنفسهم مكانًا حيويًا نزلوا فيه عند العدوة القصوى في بطن الوادي حيث قربه من الماء، وأرضه صخرية لا تسيح فيه الأقدام، بينما نزل المسلمون في أرض رملية، بعيدًا عن الماء وذلك يمنعهم من الحركة، ويوقع بهم الظمأ.
اشتد الأمر بالمسلمين وأصابهم التعب والظمأ، بينما كان الماء وفيرًا لدى القرشيين، والأرض تحت أقدامهم صلبة وأراد الله تعالى بقدرته وحكمته أن يبدل الأمر ويغير الحال فأنزل في ليلة المعركة مطرًا كثيرًا ألحق الأذى بالكفار، ومنعهم من التقدم، وشق عليهم أن يتحركوا فوق الصخر المبلل بالماء أما المسلمون فقد تطهروا، وتصلب الرمل تحت أقدامهم وسهل المشي، وثبتت الأقدام، وملئوا أسقيتهم وشربوا، وسقوا إبلهم.
وهكذا تحولت مزية المكان الذي اختاره القرشيون إلى سوأة ألمت بهم.
2-
محاولة تخريب معسكر المسلمين:
نظر القرشيون إلى معسكر المسلمين فوجدوا أن المسلمين قد بنوا حوضًا وملئوه ماء وخربوا ما عداه فأرسلوا نفرًا منهم لهدم الحوض، وإسالة مائه فحاول المسلمون طردهم، ومنعهم من الاقتراب، فقال صلى الله عليه وسلم:"دعوهم يشربون، فما شرب أحد منهم يومئذ إلا قتل سوى حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل وأسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه، وكان إذا اجتهد في اليمين فيما بعد يقول: لا والذي نجاني من يوم بدر وهكذا ضلت محاولة القرشيين في تخريب حوض المسلمين".
3-
معرفة عدد المسلمين:
اطمأنت قريش لمنزلتها في بدر فبعثت "عمير بن وهب الجمحي" للتعرف على مدى
قوة جيش المدينة، فدار عمير بفرسه حول المعسكر، ثم رجع إليهم فقال: ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين، أو مدد؟
فضرب في الوادي حتى أبعد، فلم ير شيئًا فرجع إليهم، فقال: ما وجدت شيئًا، ولكني قد رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، قوم ليس معهم منعة، ولا ملجأ، إلا سيوفهم، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلًا منكم، فإذا أصابوا منكم أعدادكم، فما خير العيش بعد ذلك، فروا رأيكم وأنى لهؤلاء القوم لهم أن يفكروا ويتدبروا، ودعاة الحرب فيهم تنذر وتحرض وتحول بينهم وبين التعقل والفهم السليم!!
4-
مقاومة معارضي القتال:
قامت معارضة ضد أبي جهل -المصمم على المعركة- تدعو إلى العودة بالجيش إلى مكة دونما قتال، فقد مشى حكيم بن حزام في الناس، وأتى عتبة بن ربيعة فقال: يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها والمطاع فيها، فهل لك إلى خير تذكر به إلى آخر الدهر؟
قال: وما ذاك يا حكيم؟
قال: ترجع بالناس وتحمل دية حليفك عمرو بن الحضرمي -المقتول في سرية النخلة.
فقال عتبة: قد فعلت، أنت ضامن عليّ بذلك، إنما هو حليفي فعليّ عقله، وديته وما أصيب من ماله.
ثم قال عتبة لحكيم بن حزام: فائت ابن الحنظلية "أبا جهل" فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره.
ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبًا فقال: يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تقتلوا محمدًا وأصحابه شيئًا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر إلى وجه رجل يكره النظر إليه، قتل ابن عمه، أو ابن خاله، أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
وانطلق حكيم بن حزام إلى أبي جهل -وهو يهيئ درعًا له- فقال له: يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني بكذا وكذا.
فقال أبو جهل: انتفخ والله سرحه حين رأى محمدًا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، وما بعتبة ما قال: ولكنه رأى أن محمدًا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه "وهو أبو حذيفة بن عتبة، كان قد أسلم قديمًا، وهاجر" فتخوفكم عليه.
ولما بلغ عتبة قول أبي جهل "انتفخ والله سحره"، قال عتبة: سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره، أنا أم هو؟ 1.
وتعجل أبو جهل الحرب مخافة أن تقوى هذه المعارضة، فبعث على إثر هذه المحاورة إلى عامر بن الحضرمي -أخي عمرو بن الحضرمي المقتول في سرية عبد الله بن جحش- فقال: هذا حليفك "أي عتبة" يريد أن يرجع بالناس، وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فانشد خفرتك، ومقتل أخيك، فقام عامر، فكشف عن استه، وصرخ: واعمراه واعمراه فحمي القوم، واشتد أمرهم وانفعلوا لثأرهم، واستوثقوا على ما هم عليه من الشر2.
وبذلك أفسد أبو جهل على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة، وتغلب الطيش على الحكمة، وذهبت هذه المعارضة دون جدوى.
1 إمتاع الأسماع ج1 ص83 بتصرف.
2 إمتاع الأسماع ج1 ص83.