الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس: رد ما يقال عن تعدد زوجاته صلى الله عليه وسلم
يمكن تقسيم حياة النبي الأسرية إلى فترات أربع عاشها النبي صلى الله عليه وسلم بدءًا بزواجه من خديجة رضي الله عنها أولى زوجاته، وانتهاء بميمونة رضي الله عنها آخر زوجاته حتى وفاته صلى الله عليه وسلم وهي:
الفترة الأولى: بدأت حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم السيدة خديجة رضي الله عنها وعمره خمس وعشرون سنة، واستمرت حتى وفاة خديجة رضي الله عنها، وعمره صلى الله عليه وسلم خمسون سنة، وهذه الفترة هي مرحلة شباب النبي صلى الله عليه وسلم ومدتها خمس وعشرون سنة.
الفترة الثانية: بدأت بوفاة السيدة خديجة وعمره صلى الله عليه وسلم خمسون سنة حيث تزوج صلى الله عليه وسلم السيدة سودة بنت زمعة، وعاش معها أربع سنوات، انتهت بعد الهجرة بعام واحد، وكان عمره صلى الله عليه وسلم أربعًا وخمسين سنة.
الفترة الثالثة: امتدت ست سنوات، منذ أن كان عمر النبي صلى الله عليه وسلم أربعًا وخمسين سنة، إلى أن بلغ ستين سنة، وفيها تزوج النبي صلى الله عليه وسلم عددًا من أمهات المؤمنين توفي عن تسعة منهن، وكانت ميمونة آخر من تزوجهن صلى الله عليه وسلم.
الفترة الرابعة: وتمتد من بلوغ النبي صلى الله عليه وسلم سن الستين إلى أن توفي صلى الله عليه وسلم عندما بلغ ثلاثًا وستين سنة، وفي هذه الفترة لم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم أحدًا حيث حرم الله تعالى عليه الزواج فيها، وأمره أن لا يستبدل بإحدى زوجاته غيرها.
وحين ندقق النظر في تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وبخاصة في المراحل العمرية المذكورة لرسول الله صلى الله عليه وسلم نلحظ الآتي:
أولا: أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج خديجة رضي الله عنها، وكانت تكبره بخمس عشرة سنة وعاش معها حتى لقيت ربها وعمرها خمسة وستون عامًا وكان عمر النبي صلى الله عليه وسلم وقتها خمسين عامًا.
ثانيًا: استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجة واحدة حتى بلغ سنه أربعًا وخمسين سنة؛ لأنه تزوج سودة بنت زمعة الأرملة المسنة بعد وفاة خديجة، ولم يدخل بسواها إلا
بعد أربع سنوات من الدخول بسودة، وذلك بعد تمام الهجرة إلى المدينة المنورة.
ثالثًا: فترة التعدد كانت ستة أعوام، بعدما بلغ عمر رسول الله أربعًا وخمسين، ودخل في سن الكبر والشيخوخة، وهي الأعوام التي امتلأت بنزول القرآن، وبيان الأحكام الشرعية وبناء الدولة المسلمة، والحركة بالإسلام وسط الناس والقيام بالسرايا والغزوات، والاتصال بالعالم الخارجي، واستقبال الوفود من كل جهة، وإرسال الرسائل، وتبليغ الدعوة عمليا إلى العالم كله.
رابعًا: أن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم كن ثيبات، سبق لهن الزواج قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عائشة رضي الله عنها، فقد عقد عليها بأمر الله تعالى، وسنها ست سنوات، ولم يدخل بها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد الهجرة بسنة تقريبًا، وعمرها تسع سنوات رضي الله عنها.
خامسًا: لم يعترض أحد من اليهود، أو من المنافقين أو من كفار مكة على زواج النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا يتربصون به الدوائر، ولو وجدوا في زواج الرسول صلى الله عليه وسلم لعبًا، أو هوى، أو مطعنًا لأذاعوه، ونشروه في العالمين، لكنهم مع عداوتهم لرسول الله لم يتكلموا في زواجه صلى الله عليه وسلم بل شهدوا له بالعفة والطهر.
وهذه الملاحظات: تؤكد لنا حقيقة واضحة، وهي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن شهوانيًا أبدًا كما يدعي بعض أعداء الإسلام؛ لأنه لو كان شهوانيًا لاختار بكرًا، صغيرة وجميلة في زواجه الأول، ولتزوج معها غيرها وبخاصة أن المجتمع الجاهلي كان يعدد الزوجات بلا حد معين، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة يملك الوقت الذي يمكنه من إشباع شهوته، بدل أن يضيعه في الخلاء والبعد عن الناس.
ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم شهوانيًا لأوثر عنه اتصاله بالغواني والبغايا، وكان لهن يومذاك دور معروفة، وكان المجتمع يقر هذا العمل لمن يريده.
لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن كذلك وإنما عاش طاهرًا عفيفًا، لم يتهم بريبة، ولم يرم بخطيئة، وعاش صادقًا أمينًا.
وبعد موت خديجة رضي الله عنها تزوج سودة رضي الله عنها في مكة، وهي الأرملة العجوز، وعاش معها وحدها أربع سنوات، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو رغب في
أي فتاة عذراء وجميلة ومسلمة لسعدت به، ولرحب به قومها جميعًا، لكنه صلى الله عليه وسلم تزوج سودة لتعلم الدنيا كلها أن الغاية لم تكن أبدًا إشباع شهوة، أو التمتع المجرد بالأنثى، أو الانغماس في الملذات الحسية.
يقول الأستاذ عباس العقاد: قال لنا بعض المستشرقين: إن تسع زوجات لمحمد لدليل على فرط الميول الجنسية.
قلنا له: إنك لا تصف السيد المسيح بأنه قاصر جنسيًا لأنه لم يتزوج قط، فلا ينبغي أن تصف محمدًا بأنه مفرط جنسيًا لأنه جمع بين تسع نساء.
ونحن قبل كل شيء، لا نرى ضيرًا على الرجل العظيم أن يتزوج ويتمتع لأن الفطرة لا عيب فيه.
فحب المرأة لا معابة فيه ما دام في إطاره المشروع، وفي حده المباح.
وإنما المعابة أن يطغى هذا الحب حتى يخرج عن حده، وحتى يشغل المرء عن غرضه، وحتى يكلفه شططًا في طلابه، فهو عند ذلك مسح للفطرة المستقيمة، يعاب كما يعاب الجور في جميع الطباع!!
فمن الذي يعلم حقيقة ما صنع النبي في حياته، ثم يقع في روعه أن المرأة شغلته عن عمل كبير، أو عن عمل صغير؟! لم يوجد هذا بعد!!
مَن مِن بناة التاريخ قد بنى في حياته، وبعد مماته، تاريخًا أعظم من تاريخ الدعوة المحمدية، والدولة الإسلامية؟!!
ومن ذا الذي يقول عن تراث محمد صلى الله عليه وسلم: هذا عمل رجل مشغول بالنساء؟
عم شغلته المرأة؟
ومتى شغلته؟
وكيف شغلته؟
لم يتحدث أحد من المؤرخين أن محمدًا شغل بالمرأة عن رسالته، ومسئوليته.
ومن ذا الذي تفرغ لعمل ما فبلغ فيه شأو محمد في مسعاه؟ ولو كان تخصصه في جزئية صغيرة من تاريخ محمد صلى الله عليه وسلم الشامل؟
إن عظمة محمد صلى الله عليه وسلم قد أتاحت له أن يعطي الدعوة حقها، ويعطي المرأة حقها، فالعظمة حينئذ رجحان يذكر، وليست بنقص ينكر.
وهذا الاستيفاء السليم لكل واجباته صلى الله عليه وسلم كمال في الرجولة، وفي الأداء، وفي السلوك.
ورسالة محمد إذن هي الرسالة التي يفهمها أناس خلقوا للحياة، ولم يخلقوا نابذين لها، ولا منبوذين منها.
وشريعته إذا هي الشريعة المطلوبة لعامة الناس في كافة العصور لما يتمتعون فيها من حلال مشروع.
وأعجب شيء أن يقال عن النبي صلى الله عليه وسلم: إنه استسلم للذات الحس، وقد أوشك أن يطلق نساءه أو يخيرهن في الطلاق؛ لأنهن طلبن إليه المزيد من النفقة، وهو لا يستطيعها.
نساء محمد يشكون قلة النفقة والزينة، ولو شاء لأغدق عليهن النعمة، وأغرقهن في الحرير والذهب وأطايب الملذات.
أهذا فعل رجل يستسلم للذات حسه؟
أما كان يسيرًا عليه أن يفرض لنفسه ولأهله من الأنفال والغنائم ما يرضيهن، ولا يغضب المسلمين، وهم موقنون أن إرادة الرسول من إرادة الله؟
وماذا كلفه الاحتفاظ بالنساء، حتى يقال: إنه كان يفرط في ميله إلى النساء؟
هل كلفه أن يخالف ما يحمد من سننه؟!!
أو هل دفعه إلى نقض العظمة ويخالف ما يحمد من سيرته؟!!
وهل ألجأه أن يترخص فيما يرضاه أتباعه، ولا ينكرونه عليه؟!!
لم يكلفه شيئًا من ذلك، ولم يشغله عن جليل أعماله، وصغيرها، ولم نر فيه صلى الله عليه وسلم رجلا تغلبه لذات الحس كما يزعم المشهرون، بل رأيناه رجلا يغلب تلك الملذات في طعامه، ومعيشته، وفي ميله إلى نسائه، فيحفظها بما يملك منها، ولا يأذن لها أن تسومه ضريبة مفروضة عليه، ولو كانت هذه الضريبة بسيطة قد ينالها أصغر المسلمين، ولا شك
في قدرة النبي عليها لو أراد.
ويزيد في غرابة اتهام النبي بالإفراط الجنسي أن الرجل الذي توهموه ذلك التوهم لم يكن مجهولا قبل زواجه.
ولا بعد زواجه، حتى تتخبط فيه الظنون ذلك التخبط الذريع.
فمحمد كان معروفًا بين الشباب قبل قيامه بالدعوة الدينية كأشهر ما يعرف فتى من قريش وأهل مكة.
كان معروفًا من صباه إلى كهولته فلم يعرف عنه أنه استسلم للذات الحس في ريعان صباه، ولم يسمع عنه أنه لها كما يلهو الفتيان، حين كانت الجاهلية تبيح ما لا يباح، بل عرف بالطهر والأمانة، واشتهر بالجد والرصانة، وقام بالدعوة بعدها، فلم يقل أحد من شانئيه والناعين عليه والمنقبين وراءه أهون الهنات.
لم يقل أحد: تعالوا يا قوم فانظروا هذا الفتى، الذي كان من شأنه مع النساء كيت، وكيت، يدعوكم اليوم إلى الطهارة، والعفة، ونبذ الشهوات.
كلا لم يقل أحد هذا قط من شانئيه، وهم عديد لا يحصى، ولو كان لقوله موضع لجرى على لسان ألف قائل1.
وهناك من يعترض على تعدد زوجات النبي صلى الله عليه وسلم لمجرد التعدد في ذاته، ويرون ذلك غير لائق بعظماء الرجال.
والذين يقولون ذلك ضعيفو العقول بسطاء التفكير؛ لأنهم إن كانوا من الإباحيين الذين يعيشون بين الخليلات، والعاشقات، والصاحبات، فهؤلاء لا يصح الالتفات إليهم؛ لأن اعتراضهم لا مقياس له، ولا معقولية فيه، ولأن الزواج عندهم لا قيمة له وحديثهم هراء لا مصداقية فيه، ولا معنى له.
وإن كانوا أصحاب دين يقول بالتعدد، فهم قوم يحرمون على غيرهم ما أباحه دينهم، ولذلك فإهمالهم أمر عادي، واعتراضهم مردود عليهم، وعليهم أن يناقشوا أنفسهم ودينهم في إباحة التعدد.
1 عبقرية محمد ص136-140 بتصرف.
وإن كانوا من أهل الكتاب "يهود أو نصارى"، فإن الحقيقة يجب أن تتضح وهي أن العهد القديم يذكر أن عددًا من الأنبياء عددوا أزواجهم حيث لا عيب في الزواج والتعدد.
إن فرط الرجولة ليس عيبًا في الرجل، بل هو كمال وقوة إذا ظهر ضمن الإطار الذي حدده الله تعالى، وحافظ على حقوق سائر الأطراف، وكان عامل خير للمجتمع، وتقدمه1.
وإن كان العيب في التعدد تكثير النسل، والمساهمة في الانفجار السكاني -كما يقولون- فإن الله تعالى قدر لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يموت وليس له من الأبناء إلا فاطمة رضي الله عنها فلقد توفاهم الله تعالى جميعًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا فاطمة رضي الله عنها.
وإن تصور البعض أن التعدد يضر بالمرأة، فهو معارض بما يحققه التعدد للمرأة من فوائد عديدة2.
والخلاصة هي تأكيد حقيقة براءة النبي صلى الله عليه وسلم من كل زيف أشاعه أعداؤه حول زواجه صلى الله عليه وسلم.
1 الإسلام للأستاذ سعيد حوى ص157.
2 والأمثلة على فوائد التعدد للمرأة عديدة منها:
- أن تكون الزوجة عقيمًا والرجل يريد الولد، فإن من الخير لها أن يتزوج ثانية عليها، وتبقى في رعايته.
- أن تكون مريضة يرعاها زوجها، ومن الخير لها أن يتزوج أخرى وتبقى هي في عصمته.
- أن يملك الرجل طاقة "أي شبقًا" ويحتاج لأكثر من زوجة فزواجه أفضل من ارتكابه الحرام.
- وحينما تكثر النساء عقب الحروب فإن التعدد هو العلاج لذلك، وإلا فسد المجتمع كله.
إن التعدد في هذه الحالات أكرم للمرأة لتعيش في كنف رجل يرعى حقوقها، بدل أن تضيع في معترك الحياة الضروس، وهو أكرم للمجتمع حفاظًا على الطهر والفضيلة، وضمانًا، لحقوق كل فرد فيه، وهو أكرم للرجل ليصل ما بينه وبين الناس بذرية صالحة، وأسرة كريمة حانية.