الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النقطة الثانية: أهمية الهجرة
الهجرة هي الترك مطلقًا، وتشمل ترك المحسوسات والمعنويات ولذلك فهناك ترك المعاصي، وترك الأفكار الضالة، وهناك ترك الديار والبلاد والرحيل عنها إلى مكان آخر، وكلاهما هجرة وترك، والفاعل لأحدهما مهاجر وتارك.
ومن الهجرة الحسية ما تقوله الملائكة للمستضعفين الذين ظلموا أنفسهم، وبقوا تحت سيطرة الطغاة أذلاء مستعبدين ليقيموا عليهم الحجة، ويبينوا لهم أن الضعف معصية وجريمة يعاقب الله من رضي به، وهو قادر على الخلاص وذلك في قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} 1.
ومن الهجرة المعنوية جاء قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"2.
وقد هاجر المسلمون إلى الحبشة تاركين مكة وما فيها من ضلال وشرك، فهي هجرة حسية، وهجرة معنوية معًا.
والهجرة إذا أطلقت فإنها تنصرف إلى هجرة المسلمين ومعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
1 سورة النساء: 97.
2 صحيح البخاري كتاب الإيمان ج1 ص53 وهذه رواية الحميدي ط الأوقاف.
من مكة إلى المدينة المنورة، والذين قاموا بالهجرة هم المهاجرون الذين قال الله فيهم:{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} 1.
ويندرج معهم كل من ترك موطنه أيا كان موقعه، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة يقول ابن الأثير:"والمراد بالمهاجر في الشريعة من فارق أهله، ووطنه، وجاء إلى بلد الإسلام، وقصد النبي صلى الله عليه وسلم رغبة فيه، وإيثارًا له"2.
وكلام ابن الأثير لا يقيد الهجرة بمكان خاص وإنما يجعل الهجرة شاملة لأى مكان ما دامت تقصد الرسول صلى الله عليه وسلم في بلد الإسلام رغبة في صحبته، وإيثارًا للتعلم منه، وابتعادًا عن أعداء الله الذين يبغونهم الفتنة والضرر.
وعلى ذلك فمن ترك دار الشرك، ولحق بدار الإسلام فهو مهاجر، يقول ابن عباس رضي الله عنه:"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر من المهاجرين، لأنهم هجروا دار الشرك إلى دار الإسلام، وكان من الأنصار مهاجرون تركوا المدينة يوم أن كانت دار شرك وقصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة"3.
والهجرة المقصودة من الدراسة هي الهجرة إلى المدينة المنورة.
وترجع أهمية الهجرة إلى المدينة المنورة إلى أنها تمثل الانطلاقة الكبرى لانتشار الإسلام بعد ما وقف أهل مكة من الإسلام والمسلمين موقف العنت والكبرياء، وأخذوا يصدون عن سبيل الله بكل وسيلة ممكنة، مهما كان فيها من الكذب والغلو والبعد عن الحق والسداد.
يصور القرآن الكريم موقف أهل مكة من الدعوة إلى الله تعالى ويبين بوضوح أنهم لم يتدبروا حقيقتها، ولم يتفهموا ما تدعوهم إليه، وإنما كانت اعتراضاتهم تتسم بالفوضوية، واللجوء إلى السفه والجهل، وتبتعد ابتعادًا كليًا عن المناقشة الهادفة الصحيحة.
1 سورة الحشر: 8.
2 جامع الأصول ج1 ص241.
3 انظر ص468 من الكتاب الثاني.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى دين الله تعالى، ويدلل على الحق بالحسنى، ويبين الإسلام بكافة الوسائل والأساليب، ويقدم أمامهم الآيات الواضحات، ومع ذلك استمروا على عنتهم وغلوهم متعللين بالحجج الواهية والأجوبة الباهتة.
فمرة يبرزون تميزهم بالغنى المادي والوجاهة الاجتماعية والسلطان القوي وما دروا أن ما هم فيه من فضل هو من الله، والأولى بهم أن يشكروا الرازق المعطي، يقول الله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} 1.
ومرة يطالبون الرسول صلى الله عليه وسلم بتبديل الآيات، والإتيان بغيرها، وكأنهم في حفلة راقصة، تغير فيها الراقصة الملابس مع كل مقطع وأغنية، متصورين رسول الله قادرًا على التغيير أو التبديل
…
ومرة يشعرون بالعجز، فيتهمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ليس فيه، ويصفونه بالكذب والسحر ومعاداة دين الآباء يقول الله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 3.
ومرة يتعنتون في المناقشة، ويطلبون من الرسول أن يعيد لهم آباءهم من قبورهم ليشهدوا بصدقة، يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ
1 سورة مريم: 73.
2 سورة يونس: 15.
3 سورة سبأ: 43.
حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} 1.
ومرة يصيبهم الحنق والغيظ، وتتبدى منهم العداوة للمؤمنين يقول الله تعالى:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} 2.
ومرة ينكرون الحق، الثابت مستدلين بعدم الفهم، وجنوحهم إلى الظن، والخيال يقول الله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} 3.
ووصل الحال بأهل مكة أنهم حاولوا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، وكان أن نجاه الله منهم.
وقد اشتد إيذاء الكفار لكل من أسلم لمنعهم من الإسلام، وإبعادهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان الإذن بالهجرة نهاية لفترة مؤلمة عاشها المسلمون، وبداية لقوة الإسلام وتطبيقه في حركة الحياة والناس
…
وكان هذا سبب رضى المؤمنين وسعادتهم.
لقد كانت هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة مرحلة طبيعية، انطلقت فيها دعوتهم بعد حصارها الطويل، وكانت انفراجة حاسمة لا بد منها لنشر كلمة الحق بين القاضي والداني بلا عائق أو عناد.
وكان المسلمون قد أدركوا بعد أن استعصى عليهم الانطلاق إلى غايتهم الكبرى أن تغيير المكان والأقوام أمر ضروري لتحقيق النجاح المنشود.
1 سورة الجاثية: 25.
2 سورة الحج: 72.
3 سورة الجاثية: 32.
ولم يعد ممكنًا للمسلمين أن يمارسوا نشاطهم المحدود المقيد في مكة بعد ثلاث عشرة سنة كانت محسوبة من عمر دعوتهم، وتيقنوا من حاجة الإسلام والمسلمين إلى منطلق أمين، يمكنهم من الوصول للناس في العالم كله، ولهذا كانت استجابتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بالهجرة إلى المدينة المنورة.
كانت الهجرة للمدينة إذن أمرًا ضروريًا، بعد أن هيأ أهلها للمسلمين المكيين الفرصة الطيبة للخلاص من مراقبة الأعداء، والبعد عن اضطهادهم وعنتهم.
كان المطلوب آنذاك أن يهاجر من مكة جميع القادرين على تركها، لتيخذوا المدينة مركزًا جديدًا للدعوة وقد تحقق هذا، ولم يبق في مكة إلا من حبس أو فتن.
ولا شك أن هجرة المسلمين كانت معروفة لأعدائهم لأنهم لم يكونوا يعيشون وحدهم في مجتمعات منعزلة، وإنما كانوا يعاشرون جماعات تعارضهم وتحرص على تعطيل دعوتهم، ولهم معهم كل يوم معارضات ومشاحنات، ولذلك كان أهل مكة يدركون رحيل المسلمين من بينهم كلما غابوا عنهم.
وخرج المسلمون من مكة غير آسفين عليها، وقدموا على المجهول تاركين أهلهم وأموالهم مرغمين، وكانوا مع ذلك راضين بالحياة الجديدة الآمنة، وكان طريق الهجرة مفتوحًا أمامهم فهاجر بعضهم أمام الناس، وتسلل بعضهم الآخر في ظلمات الليل في غفلة وستر.
ولم يكن في الهجرة عند بدايتها شيء من الخطر، ولم يقف أهل مكة ضدها، ولعلها كانت تبدو أمام المشركين نوعًا من الهروب من ميدان العمل، أو نوعًا من السلبية أمام الأخطار، ولعلهم قاسوها على هجرة المسلمين قبل ذلك إلى الحبشة، وظنوها مجرد رحيل فريق من المسلمين إلى غير بلدهم ليعيشوا غرباء مدة يعودون بعدها إلى مكة.
ولم يعجز القرشيون أن يوجدوا لأنفسهم بعض التعليلات المناسبة لأفهامهم، بسبب عدم معارضتهم للمسلمين وهم يرحلون عن مكة، فلقد تصوروا أن هجرة المسلمين راحة لهم مما يرون ويسمعون، وأملوا في افصل بينهم وبين رسولهم، وبخاصة
أن الرسول باق في مكة معهم كما تصوروا.
ولم يكن المسلمون آنذاك قوة تؤثر بالضرر على المنطقة أثناء الهجرة، فتركهم أعداؤهم يهاجرون بعد أن ضحوا بكل شيء في سبيل عقيدتهم، ولم يكن في الهجرة شيء من العنف أو الإثارة، ولذلك سمح القرشيون لكثير من المهاجرين بالهجرة بعد أن تركوا أموالهم وبيوتهم.
وبدت هجرة المسلمين أمام المشركين كأنها نوع من الهزيمة، أو صورة للفرار من ميدان التنافس والصراع.
إلا أن الهجرة لم تكن شيئًا من ذلك أبدًا؛ لأن المهاجرين ذهبوا إلى المدينة ليباشروا الأعمال الضخمة التي تخدم الدعوة، ويتحملوا مسئوليتها أمام الناس.
وقد تحول الإسلام بهم إلى مجتمع متكامل ينطق بالعمل والتطبيق في حيوية ونشاط، ويتوحد بأخوة العقيدة التي تربط بين القلوب والأرواح، وتجمع بين الأجساد والأعمال، وتجعل الطرق والهدف واحدًا، وتزيل جميع الفوارق المادية، وتقضي على غبش الهوى ونزغات الضلال.
إن المهاجرين لم يضيعوا وقتًا يخدمون فيه دينهم، وبخاصة بعد أن هاجر الجميع وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد بدأت المواجهات الحاسمة، والأعمال المتتابعة في خدمة الدعوة إلى الله تعالى.
قد يتصور أحد أن هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة كانت من أجل الراحة والهدوء، وإيثارًا للسلامة من اضطهاد يتعرضون له في مكة، أو سترًا لضعفهم وقلتهم، وكل هذا غير صحيح، ومردود.
أين هي السلامة وسط السرايا والغزوات التي اشتركوا فيها؟ والتي لم تنقطع طوال الفترة المدنية؟!
وأين هذا الهدوء وقد تحولت حياتهم كلها إلى عبادة، ودعوة، وجهاد؟
وأين هذا الضعف في المهاجرين وقد تنوعت غزواتهم في كل الجهات والقبائل المحيطة بالمدينة؟
إنهم هاجروا لله ورسوله، واستمروا على ذلك حتى ماتوا لله وروسوله.
وقد شجع المسلمون أهل مكة بصمتهم، وتواضعهم على قبول هذا التحليل الكاذب ليصرفوهم عن ملاحقتهم بالضرر.
وربما كان القرشيون يقنعون أنفسهم بقبول هذا الفهم ويصدقون خيالهم، ليفتخروا أمام الناس بانتصارهم على المسلمين بعد الخصومات الطويلة.
لقد تصور القرشيون صدق نظرتهم في المهاجرين لأن المهاجرين لم يتكلموا عن شيء، وكل ما اعتنوا به حين الهجرة هو خروجهم من مكة إلى حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة ليكون آخر من يهاجر منها، ولعله كان يخشى على أصحابه إذا هاجر قبلهم فنصحهم بالرحيل قبله ليضمن لهم نوعًا من الأمن والسلامة، وليكون خلف ظهورهم كالقائد الذي اضطرته ظروف الحرب للانسحاب فإنه يبقى مع آخر المتراجعين من جيشه أملا في سلامتهم وتحقيقًا للغايات المطلوبة منهم.
ولعل الرسول صلى الله عليه وسلم كان يضلل أعداءه ببقائه بينهم ليوهمهم بأنه سيكون معهم بعد ذهاب أصحابه إلى المدينة، وبذلك تنتهي خطورته ويفقد أنصاره ويعيش صامتًا مداهنًا لأن القائد بمفرده لا يفعل شيئًا، وكل قوته في تنفيذ جنوده، واتباعهم لأوامره وتوجيهاته.
لقد تبخرت تصوراتهم كالسراب بعد أن هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولحق بأصحابه في المدينة، وبدأت دولة الإسلام تتعالى، وتنطلق في العالمين.