الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حجية مفهوم اللقب:
ذهب جمهور المتكلمين والحنفية إلى عدم الاحتجاج بمفهوم اللقب، ففى الأمثلة السابقة لا يستدل على عدم تعلق الرسالة بغير محمد صلى الله عليه وسلم، وعدم تعلُّق الربا بغير الذهب والفضة، وعدم وجوب الزكاة على غير الغنم؛ لأن ذكر اللقب لا يفيد تقييدًا ولا تخصيصًا ولا احترازًا عما سواه. وذهب بعض العلماء إلى حجية مفهوم اللقب أي: أن ينتفي الحكم المتعلق باللقب عن غيره، ويثبت للغير نقيض الحكم المذكور (1)، والراجح قول الجمهور؛ لأن النطق بالحكم الخاص أو لنوع لا ينفي الحكم عن غيره.
6 - مفهوم الحصر:
هو انتقاء الحكم المحصور عن غير ما حصر فيه، وثبوت نقيضه له، ويتم الحصر بحرف "إنما"، وحصر المبتدأ في الخبر بكونه معرفًا باللام، أو الإضافة.
مثاله: قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات"(2)، فيدل بمنطوقه على حصر قبول الأعمال في المنوي، ويدل بمفهومه على عدم اعتبار العمل غير المنوي، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم:"مِفْتاحُ الصَّلاة الطُهُور، وتحريمُها التكبيرُ، وتحليلُها التسليم"(3) فيدل بمنطوقه على حصر صحة الصلاة بالطهارة،
(1) المستصفى (2/ 204)، المعتمد (1/ 159)، الإحكام للآمدي (3/ 95)، البرهان (1/ 453)، البناني على جمع الجوامع (1/ 252)، نهاية السول (1/ 318)، تيسير التحرير (1/ 101، 131)، فواتح الرحموت (1/ 432)، شرح العضد (2/ 182)، شرح الكوكب المنير (3/ 509)، شرح تنقيح الفصول ص 271، مختصر الطوفي ص 127، إرشاد الفحول ص 182، علم أصول الفقه ص 155، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 265)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 173، أصول الأحكام ص 263.
(2)
هذا الحديث مشهور، ومتفق عليه في الصحاح والسنن وغيرها عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(3)
هذا حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي عن علي كرّم اللَّه وجهه. =
وحصر التحريم بالتكبير، وحصر التحليل بالتسليم، ويدل بمفهوم المخالفة على عدم هذه الأحكام عند عدم وجود الطهارة والتكبير والتسليم، ومثل: صديقي عمرو، فإنه يفيد الحصر؛ لأن المراد الجنس، فيدل بمفهوم المخالفة على نفي الصداقة عن غير عمرو.
حجية مفهوم الحصر:
ذهب بعض العلماء إلى حجية مفهوم الحصر، وأن اللفظ يدل على الحصر بالمذكور دون غيره، وقال بعض الفقهاء والأصوليين بعدم حجيته؛ لأن اللفظ لا يدل على الحصر (1)، والراجح الأول؛ لأن أدوات الحصر قد وضعت في اللغة لإثبات النفي والإثبات، فيدل المنطوق على إثبات الحكم للمنطوق، ونفيه عن المسكوت عنه.
شروط العمل بمفهوم المخالفة:
اشترط الجمهور القائلون بالاحتجاج في مفهوم المخالفة شروطًا، بعضها راجع للمسكوت عنه، وبعضها راجع للمذكور المنطوق، وهذه الشروط تقلل من العمل بمفهوم المخالفة، وتقرب الآراء مع المخالفين القائلين بعدم حجية مفهوم المخالفة، وأهم هذه الشروط هي (2):
1 -
ألا يدل على المسكوت دليل خاص. فيعمل بمنطوق الدليل الخاص، مثل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
(1) الإحكام (3/ 91)، البرهان (1/ 454)، البحر المحيط (4/ 50)، شرح تنقيح الفصول ص 271، إرشاد الفحول ص 182، أصول الفقه الإسلامي (1/ 366)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 174.
(2)
الإحكام للآمدي (3/ 100)، البرهان (1/ 477)، تيسير التحرير (1/ 99)، فواتح الرحموت (1/ 414)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (1/ 246)، شرح العضد (2/ 175)، المسودة ص 362، شرح الكوكب المنير (3/ 489)، مناهج العقول (1/ 315)، إرشاد الفحول ص 180، تفسير النصوص (1/ 672)، علم أصول الفقه ص 159، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 372)، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 178، أصول الأحكام ص 265.
وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178]، فيدل المفهوم عدم قتل الذكر بالأنثى قصاصًا، ثم جاء نص خاص يدل على وجوب القصاص بين الرجل والمرأة في قوله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45]، فهذا يشمل القصاص بين النفس والنفس مطلقًا، وأيدت السنة ذلك، ومثل قوله تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، فتدل الآية بمفهوم المخالفة على عدم قصر الصلاة حالة الأمن، وهذا ملغى بالحديث الذي أجاز رخصة القصر مطلقًا، وقال صلى الله عليه وسلم:"صَدَقةٌ تصَدَّق اللَّهُ بها عليكم فاقبلُوا صَدَقتَه"(1) فإنه يدل على حكم المسكوت، وهو قصر الصلاة حالة الأمن (2).
2 -
ألا يعارض مفهومَ المخالفة ما هو أرجح منه في الدلالة، كدلالة النَّص ودلالة التنبيه أو الإيماء، ودلالة مفهوم الموافقة أو القياس الجلي، فيسقط مفهوم المخالفة، ويقدم الاستدلال بهذه الدلالات، كما سبق بيانه عند شرحها.
3 -
ألا يكون للقيد الذي قيد به النص فائدة أخرى غير نفي الحكم عن المسكوت عنه خلافًا للمنطوق، مثل الترغيب، أو الترهيب، أو التنفير، أو التفخيم، أو تأكيد الحال، أو الامتنان، أو نحو ذلك.
ومثال التنفير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، فلا مفهوم للأضعاف بجواز الربا القليل؛ لأنه جاء للتنفير من الحالة التي كانت في الجاهلية، وتطبق اليوم باسم الفائدة المركبة، فالقيد بالأضعاف للتنفير؛ بدليل قوله تعالى في تحريم الربا القليل
(1) هذا الحديث أخرجه مسلم وأصحاب السنن الأربعة عن عمر ويعلى بن أمية رضي الله عنهما.
(2)
ومثله حديث: "إنما الماءُ من الماء" الذي رواه مسلم وأحمد، ويدل بمفهومه على عدم الغسل إذا وقع جماع ولم يتم إنزال، ثم عارضه حديث عائشة رضي الله عنها "إذا مسَّ الختانُ الختانَ فقد وَجَبَ الغسلُ" الذي رواه مسلم والترمذي وأحمد فدل على وجوب الغسل عند التقاء الختانين سواء أنزل أم لم ينزل، فيقدم على مفهوم المخالفة في الحديث الأول.
والكثير: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279].
ومثال الترغيب والحث على الامتثال قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحلُّ لامرأةٍ تُؤْمنُ باللَّه واليومِ الآخِر أن تَحُدُّ فوقَ ثلاثةِ أيامِ إلا على زَوْجها أربعةَ أشهرٍ وعشرًا"(1) فقيد "تؤمن باللَّه واليوم الآخر" قُصِد منه التفخيم وتأكيد الحال للحث على الامتثال لأمر اللَّه ورسوله؛ لأنه مدعاة لامتثال الأوامر واجتناب النواهي، فلا يستدل منه على إباحة الإحداد على غير الزوج أكثر من ثلاثة أيام لغير المؤمنة.
ومثال إفادة التكثير والمبالغة قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، فإن قيد العدد بسبعين لا مفهوم له، فالزائد على السبعين لا يحقق فائدة؛ لأنه ذكر على سبيل المبالغة في الاستغفار، وأنه مع المبالغة لا فائدة لمن يُستغفر لهم.
ومثال الامتنان قوله تعالى عن البحر: {لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14]، فقوله "طريًّا" للامتنان على نعم اللَّه الموجودة في البحر، فلا يدل على منع أكل ما ليس بطري.
4 -
ألا يكون ذكر القيد في النص قد خرج مَخْرج الأعم الأغلب أو لمراعاة الواقع، كما في قوله تعالى في تحريم بنات الزوجة (الربائب):{وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23]، فإن الغالب أن تكون الربيبة في حجر زوج أمها، فجاء القيد به، ولا يؤخذ منه مفهوم المخالفة، فالربيبة محرمة سواء كانت في الحجر أم لا، ولكن يعمل بمفهوم المخالفة في القيد الثاني "اللاتي دخلتم بهن" فلا تحرم الربيبة إلا إذا تمَّ الدخول بالزوجة، فإن لم يدخل بها فلا تحرم بنتها، ولذلك قالوا:"الدخول بالأمهات يحرِّم البنات".
ومثله قوله تعالى في الخلع: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ
(1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن أم حبيبة وأم سلمة وحفصة وزينب بنت جحش رضي الله عنهن.
أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا} [النساء: 35]، فإن الغالب أن الخلع لا يكون إلا مع الشقاق، ومثله قوله تعالى:{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]، فالخلع في الغالب لا يكون إلا عند الخوف من ترك أوامر اللَّه، فتفتدي الزوجة نفسها بمال تعطيه للزوج مقابل حصولها على الطلاق.
5 -
أن يكون الكلام الذي ذكر فيه القيد مستقلًا، فإن ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له، كقوله تعالى:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، فإن عبارة "في المساجد" لا مفهوم لها؛ لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقًا، سواء كان في المسجد أو خرج منه لعذر شرعي.
آراء الأصوليين في الاحتجاج بمفهوم المخالفة:
اتفق علماء الأصول على أمرين في الاحتجاج بمفهوم المخالفة، وهي:
1 -
اتفق العلماء -إلا قلة قليلة- على عدم الاحتجاج بمفهوم اللقب، فإذا قال اللَّه تعالى:"محمد رسول اللَّه" لا يفهم منه ألا يكون غيره رسولًا، وإذا عدد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الأصناف الستة التي يجري فيها الربا، لا يفهم منه أن الربا لا يجري في غيرها، ولذلك اتفقوا على قياس العملة الورقية على النقدين، وقاسوا على الأربعة الأخرى غيرها مع اختلاف في العلة، ولا يحتج بمفهوم اللقب سواء كان في نص شرعي أو في كلام الناس.
2 -
اتفق العلماء على الاحتجاج بمفهوم المخالفة في غير النصوص الشرعية، من كلام الناس كالعقود، وشروط الواقف، والموصي، وغيره، وكذا في كلام العلماء والمؤلفين، نزولًا على حكم العرف والعادة، فلا يقيد الناس كلامهم بقيد إلا الفائدة، ولذلك قال العلماء: إن مفاهيم الكتب حجة.
3 -
إن الشروط التي وضعها الجمهور لمفهوم المخالفة لبناء الأحكام على مقتضاه، والأمثلة التي ذكروها، تلتقي مع المخالفين لمفهوم المخالفة، وتصبح وجهات النظر متقاربة، وتصبح ثمرة الخلاف محدودة في الفروع والجزئيات.
واختلف علماء الأصول في الاحتجاج بمفهوم المخالفة فيما عدا الحالات