الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الخامس التعارض والترجيح في الأدلة
مقدمات:
1 -
إن مبحث التعارض والترجيح مهم جدًّا؛ لأنه يفرض نفسه عمليًّا في الحياة في مختلف شؤونها، وكذلك يفرض نفسه على العالم والفقيه والمجتهد والقاضي، ولذلك لا بدّ من دراسته وبيانه للاستعانة به في الوصول إلى الغاية الصحيحة، والهدف المنشود، دون أن يكون عائقًا في ذلك، أو عقبة في الطريق، فيجب الترجيح عند التعارض بين الأدلة، للعمل بالأقوى، ويجب تحديد قواعد الترجيح وضوابطه للعمل بها.
2 -
إن مبحث التعارض والترجيح يرد في الفقه عامة، وفي البينات خاصة، وأمام القاضي بشكل أخص، ولذلك يفرد الفقهاء في كتب القضاء والدعوى والبينات بحثًا مستقلًا للتعارض الذي يقع بين الفروع، ويظهر بشكل ملموس في القواعد الفقهية عند تطبيق القاعدة على الفروع، ثم الاستثناءات الواردة عليها، وكذلك بحث التعارض بين البينات نظريًا في الفقه، وعمليًّا أمام القاضي، لبيان السبيل السديد في معرفة الحق، وبيان الواقع للفصل فيه (1).
3 -
إن مبحث التعارض والترجيح أحد بحوث أصول الفقه الإسلامي،
(1) انظر رسالتنا: وسائل الإثبات، الفصل الخامس من الباب الثاني في التعارض والترجيح في البينات (2/ 801)، وأن عددًا من العلماء صنفوا كتبًا مستقلة في تعارض البينات.
ويرد نظريًّا بين الأدلة الكلية، وهي مصادر التشريع العامة، كما يرد في جزئيات الأدلة الكلية، وفي فصول الدليل الواحد، وهو يواجه المجتهد أولًا عند الاستنباط والاستدلال، ثم يواجه الأصولي في التأليف والتصنيف، وفي تقعيد أصول الفقه وبيان مبادئه وقواعده التي يعتمد عليها في الاستدلال ثانيًا، وعند المقارنة ثالثًا، وهو محل البحث هنا فقط.
4 -
تطور مبحث التعارض والترجيح في العصور الأخيرة لاعتماده في الدراسات المقارنة أو الموازنة بين المذاهب الفقهية، واستعراض أدلتها، وتعارضها مع أدلة المذاهب الأخرى، ثم العمل على الترجيح بين الأقوال والأوجه في المذهب الواحد، ثم يبين الباحث المذاهب المختلفة (1).
5 -
اختلف منهج علماء الأصول في مكان دراسة التعارض والترجيح، فعرضه جمهور الحنفية وبعض الحنابلة والبيضاوي من الشافعية بعد مباحث الأدلة أو المصادر، وقبل الكلام على الاجتهاد والتقليد؛ لأن التعارض والترجيح وثيق الصلة بالأدلة، فلا يمكن إثبات الأحكام بالأدلة الظنية إلا بالترجيح بينها.
وذهب جمهور الشافعية والمالكية والحنابلة إلى ذكر التعارض والترجيح بعد الاجتهاد والتقليد؛ لأنها من عمل المجتهد، فالمجتهد هو الذي يدرك التعارض بين الأدلة، ثم يعمل على ترجيح أحدها.
ورجحنا منهج الجمهور؛ لتوقف معرفة التعارض بين الأدلة ثم الترجيح بينها على الاجتهاد، وأن هذا من عمل المجتهد حصرًا؛ لأنه يعرف التفاوت بين الأدلة، ويصنفها حسب مراتبها في القوة، ويحدد مجال التعارض، ثم يعمد إلى بيان الراجح منها ليعتمد عليه في الاستدلال والاستنباط.
6 -
نسارع إلى القول فورًا: إنه لا يوجد تعارض حقيقي فيما بين الأدلة الكلية، ولا تعارض فيما بين الأدلة الجزئية والفرعية، وإن التعارض هو في
(1) انظر آراء العلماء في مشروعية الترجيح بين المذاهب وعدمه في: البرهان (2/ 1156)، المنخول ص 427، المسودة ص 309، الموافقات (4/ 176) وما بعدها، شرح الكوكب المنير (4/ 622)، مختصر الطوفي ص 187، المدخل إلى مذهب أحمد 197.
الظاهر، وبحسب ما يتبادر إلى الذهن، ثم يزول بعد النظر والتأمل والبحث؛ لأن مصدر الأدلة الكلية والجزئية هو اللَّه سبحانه وتعالى؛ ولأن التعارض مبدئيًّا يعني التناقض والاختلاف والاضطراب، وهذا يستحيل أن يصدر من إنسان عاقل، فكيف يصدر من العليم الخبير الحكيم؛ وهذا ما بيّنه القرآن الكريم بقوله تعالى:{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)} [النساء: 82]، لكن معظم الأدلة ظنية، فيقع بينها التعارض ظاهرًا (1).
7 -
ورد في الكتب اصطلاح التعارض، واصطلاح التعادل، وذهب بعض العلماء إلى التفريق بينهما تبعًا للغة، فالتعادل لغة: التساوي، وعِدْل الشيء مثله من جنسه أو مقداره، أما التعارض فهو التمانع، ومنه تعارض البينات؛ لأن كل واحد تعترض الأخرى، وتمنع نفوذها (2).
بينما ذهب جماهير علماء الأصول إلى استعمال التعادل في معنى التعارض؛ لأنه لا تعارض إلا بعد التعادل، وإذا تعارضت الأدلة، ولم يظهر -مبدئيًّا- لأحدهما مزية على الآخر، فقد حصل التعادل بينها، أي: التكافؤ والتساوي (3)، وسوف نسير مع رأي الجمهور بعدم التفريق بين التعادل والتعارض، واعتبارهما مترادفين.
ونتناول بحث التعارض والترجيح في ثلاثة فصول، وهي:
(1) تيسير التحرير (3/ 161)، مجموع الفتاوى (20/ 9)، اللمع ص 70، شرح الكوكب المنير (4/ 599)، الإحكام للآمدي (4/ 162، 239)، مختصر ابن الحاجب (2/ 289، 309)، الروضة ص 352، 372، 386، المدخل إلى مذهب أحمد ص 196، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1171).
(2)
المصباح المنير (2/ 542، 551)، القاموس المحيط (2/ 334، 4/ 14)، معجم مقاييس اللغة (4/ 247، 272).
(3)
انظر: المحصول (5/ 505)، جمع الجوامع والبناني (2/ 357)، نهاية السول (3/ 183)، فواتح الرحموت (2/ 189)، البحر المحيط (6/ 108، 109، 112)، إرشاد الفحول ص 273، التلويح على التوضيح (3/ 38)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1171)، منهج التوفيق والترجيح ص 46، وسيأتي المزيد من المصادر والمراجع =
الفصل الأول: التعارض بين الأدلة.
الفصل الثاني: الترجيح بين الأدلة.
الفصل الثالث: طرق الترجيح.
وفي ذلك إتمام لبحث التعارض والترجيح، وبه يكتمل البناء، وينتهي هذا الكتاب، ونسأل اللَّه العون والسداد والتوفيق.