الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والعياذ باللَّه أن يتأخر الناس والعلماء ليكونوا مع الأشرار، ولذلك قال عدد من العلماء: لن تخلو الأرض من قائم للَّه بالحجّة في كل وقت ودهر وزمان، وإن كان قليلًا في كثير، وقالوا: لو أخلى اللَّه زمانًا من قائم بحجة زال التكليف، إذ التكليف لا يثبت إلا بالحجة الظاهرة، وإذا زال التكليف بطلت الشريعة، ولو عُدِم الفقهاء لم تقم الفرائض كلها، ولو عُطِّلت الفرائض كلُّها لحلت النقمة بالخلق كما جاء في الخبر السابق، وأن الخلو من مجتهد يلزم منه إجماع الأمة على الخطأ، وهو مناف للخبر:"لا تجتمع أمتي على الخطأ"، "أمتي لا تجتمع على الخطأ"(1).
القول الثاني: يجوز خلو العصر من المجتهدين، وهو رأي أكثر العلماء، وجزم به الفخر الرازي، والغزالي من الشافعية وبقية المذاهب.
واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن اللَّه لا يَقْبضُ العلمَ انتزاعًا، يَنْتَزِعَهُ من العباد، ولكنْ يَقْبضُ العِلْمَ بقبضِ العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالمًا اتَّخَذَ الناسُ رؤساءَ جهالًا، فسُئِلُوا، فأفتَوْا بغيرِ عِلْم، فضلُّوا وأَضَلُّوا"(2)، فهذا يدل على خلو العلماء، وأن الناس كلَّهم جهال، لا مجتهد فيهم.
المناقشة والترجيح:
إن هذه المسألة -أصلًا- نظرية خيالية، وهي في آخر الزمان، ولعل أكثر العلماء لاحظوا عدم وجود المجتهدين اجتهادًا مطلقًا كالأئمة الأربعة، ولذلك قال الغزالي في "الوسيط":"قد خلا العصر عن المجتهد المطلق" وقال الرافعي: "الخلق كالمتفقين على أنه لا مجتهد اليوم".
وإن خلو العصر عن المجتهد المطلق لا يعني خلو الزمان عن المجتهدين
(1) هذا الحديث رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما، وأبو داود عن مالك الأشعري، وأحمد عن أبي بصرة الغفاري، قال الحافظ ابن حجر:"هذا حديث مشهور، له طرق كثيرة، لا يخلو واحد منها من مقال".
(2)
هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه عن عبد اللَّه بن عمرو رضي الله عنه.
من سائر الطبقات الذين يبيّنون للناس أحكام الشرع ولو بالتخريج والقياس وغيره، ولذلك أكد السيوطي رحمه اللَّه تعالى أن الاجتهاد في كل عصر فرض، ثم بيَّن أنه لا يجوز عقلًا وشرعًا إخلاء العصر من مجتهد، وأكد كلامه باستعراض أسماء العلماء في كل طبقة ممن وصل إلى رتبة ما في الاجتهاد، وهذا صحيح ومنطقي، ونلمسه في تاريخ الإسلام والمسلمين، ونشاهده في عصرنا الحاضر، وأن الحديث الذي احتج به المانعون إنّما ذلك في آخر الزمان، وأنه من أشراط الساعة، وهذا ابن دقيق العيد رحمه اللَّه تعالى يقول:"لكنْ إلى الحدّ الذي تنتقض به القواعد بسبب زوال الدنيا في آخر الزمان" وقال أيضًا: "والأرض لا تخلو من قائم للَّه بالحجّة، والأمة الشريفة لا بدَّ لها من سالك إلى الحق على واضح المَحَجَّة إلى أن يأتي أمر اللَّه في أشراط الساعة الكبرى" ونقل هذا الزركشي رحمه اللَّه تعالى ثم قال: "والحقُّ أن العصر خلا عن المجتهد المطلق، لا عن مجتهد في مذهب أحد الأئمة الأربعة"(1).
وإن تقدم العلوم، وتيسر الطباعة، ونشر أمهات الكتب اليوم يؤكد توفر أسباب الاجتهاد على من توفرت فيه شروط من التخصص والتعمق والبحث والنظر، وقد قال الشوكاني قبل حوالي مئتي سنة قبل وجود المطابع: "فإنه لا يخض على من له أدنى فهم أن الاجتهاد قد يسّره اللَّه للمتأخرين تيسيرًا لم يكن للسابقين؛ لأن التفاسير للكتاب العزيز قد دُوِّنت، وصارت في الكثرة إلى حد لا يمكن حصره، والسنّة المطَهَّرة قد دُوّنت، وتكلم الأئمة على التفسير والتجريح، والتصحيح والترجيح بما هو زيادة عما يحتاجه المجتهد، وقد كان السلف الصالح
…
يرحل للحديث الواحد من قطر إلى قطر،
(1) البحر المحيط (6/ 208، 209)، وانظر أقوال العلماء في مسألة الخلو عن مجتهد في: شرح الكوكب المنير (4/ 564)، والمصادر التي وردت في الهوامش، وأهمها: الإحكام للآمدي (4/ 233)، تيسير التحرير (40/ 240)، أعلام الموقعين (2/ 270، 275)، مجموع الفتاوى (20/ 204)، مختصر ابن الحاجب (2/ 307)، فواتح الرحموت (2/ 399)، المسودة ص 472، الرد على من أخلد إلى الأرض ص 67، 97، شرح تنقيح الفصول ص 345، الملل والنحل (1/ 205)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 191.