الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إليه المجتهد هو الحق المطلوب به، فلم يجز أن يكون القصد هو الاستدلال دون الحكم المطلوب به؛ لأن الاستدلال مقصود لمعرفة الحكم، وقد وضع اللَّه تعالى أمارات توصل إلى حكم ما أخفاه، فلم يخرج عن الاستطاعة.
ولعل الراجح هو قول الشافعي رحمه اللَّه تعالى؛ لأن الهدف من الاجتهاد، وتكليف المجتهد بالاجتهاد، هو لمعرفة الحق الذي يظن أنه حكم اللَّه تعالى في المسألة المجتهد فيها، وهو نتيجة الاجتهاد، وهو ما يجري عليه العمل من المجتهدين عامة (1).
ثانيًا: اعتماد الإصابة واحتمال الخطأ في الاجتهاد:
إن اعتماد الإصابة حتمًا في الاجتهاد، واحتمال الخطأ فيه، يختلف بحسب المجتهد فيه، ولذلك لا بد من التفصيل.
1 - الاجتهاد في العقليات:
الأمور العقلية تشمل ما يصح للناظر درك حقيقتها بنظر العقل المحض، ولو قبل ورود الشرع، كإثبات وجود الصانع الخالق، وحدوث العالَم، وصفات اللَّه تعالى واجب الوجوب الواجبة والجائزة والمستحيلة، وبعثة الرسل، وتصديقهم بالمعجزات، كما يشمل الأمور الشرعية التي تستند إلى ثبوت أمر عقلي، كعذاب القبر، والصراط، والميزان، ورؤية اللَّه تعالى، وعدم خلق القرآن، وخلق الاستطاعة في كسب الأعمال (2)، وخروج الموحدين من النار، وغير ذلك.
(1) الحاوي (20/ 188 - 189).
(2)
قال أهل السنة: إن المؤمنين يرون ربهم في الآخرة؛ لقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، ولقوله صلى الله عليه وسلم:"إنكم سترون ربكم عيانًا، كما ترون القمر، لا تضامون في رؤيته"، أخرجه البخاري ومسلم (5/ 134) وأبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد عن جرير رضي الله عنه، وخالف المعتزلة في ذلك لقوله تعالى:{لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)} [الأنعام: 103]، وفسّرها أهل السنة: لا تدركه إدراك ماهية وإحاطة.
وقال أهل السنة: كلام اللَّه قديم غير مخلوق؛ لأنه صفة من صفاته القديمة كذاته، والقرآن كلام من اللَّه، وليس من اللَّه شيء مخلوق، وخالف المعتزلة =
فمن اجتهد في هذه الأمور العقلية، فيجب أن يهتدي إلى الحق والصواب فيها؛ لأن الحق فيها واحد لا يتعدد، والمصيب فيها واحد بعينه، وهذا رأي عامة الأصوليين، وقال بعضهم: إنه إجماع (1)، لأن تعدد الأقوال فيها يؤدي إلى اجتماع النقيضين أو الضدين، وهو باطل، والحق واحد، فمن أصابه أصاب الحق، ومن أخطأه فهو آثم، ثم يختلف الإثم، فإن كان الخطأ فيها يرجع إلى الإيمان باللَّه ورسوله فالمخطئ كافر (2)، واستدل العلماء على ذلك بقوله تعالى:{ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [صَ: 27]، وقوله تعالى:{وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23]، وقوله تعالى:{وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 17]، وقال عن الكفار:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10]، فاللَّه سبحانه ذمهم على معتقدهم، وتوعدهم بالعقاب عليه، ولو كانوا معذورين فيه لما كان الوعيد، ويؤكد ذلك أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم طالب الكفار من اليهود والنصارى بتصديقه واعتقاد رسالته، وذمّهم على معتقداتهم، ولو كانوا مجتهدين فيها، وأجمعت الأمة على ذم الكفار، ومطالبتهم بترك اعتقادهم، وطالبوهم باعتناق رسالة الإسلام.
= وقالوا: القرآن مخلوق، لأنهم ينكرون الصفات الأزلية للَّه، والقرآن من الصفات، وقال بذلك الجهمية والخوارج وبعض المرجئة.
وقال أهل السنة: إن اللَّه يخلق الاستطاعة على الفعل عندما ينبغي أن تكون، فيخلق القطع بالسكين حين تلامس المقطوع، وقالوا: إن أفعال العباد اختيارية واقعة بقدرة اللَّه تعالى وحدها، وقال المعتزلة؛ بقدرة العبد وحدها، وتكون الاستطاعة قبل الفعل، فالسكين تقطع باستطاعة فيها، والإيمان والكفر باستطاعة خلقت في الإنسان، وهذا من مباحث علم الكلام، فانظره في كتبهم.
(1)
قال ابن النجار رحمه اللَّه تعالى: "والمجتهد المصيب في الأمور العقليات واحد إجماعًا" شرح الكوكب المنير (4/ 488).
(2)
قال الجاحظ وعبيد اللَّه بن الحسن العنبري من المعتزلة: لا إثم عليه؛ لأنه نظر وبذل ما في وسعه، ولو كان مخالفًا ملة الإسلام، واستشنع المعتزلة هذا القول؛ لأنه يقتضي تصويب اليهود والنصارى وسائر الكفار في اجتهاداتهم العقدية (انظر: البحر المحيط 6/ 236، إرشاد الفحول ص 259).