الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المفسر، وترجيح العبارة على الإشارة، وترجيح الحظر على الإباحة، وترجيح أحد خبري الآحاد بضبط الراوي أو عدالته، أو فقهه، أو نحو ذلك كما سيأتي.
واستدل الحنفية في تقديم الترجيح على الجمع بين النصين بأن الراجح ملحق بالمتيقن، فيعمل به، وأن العمل بالراجح واجب، وتركه خلاف المعقول والإجماع، وأن ترجيح أحد الدليلين على الآخر يمنع المعارضة أصلًا؛ لأن الترجيح مبني على التعارض، والتعارض مبني على التماثل، وعند الترجيح فلا تماثل، ولا تعارض، وإنما يعمل بالأقوى ويترك الأضعف؛ لأنه في حكم العدم بالنسبة إلى القوى، فكأنه فقد شرط التعارض أصلًا (1).
واعترض عليهم بأن العمل بالراجح الحقيقي واجب عقلًا، ولا يصح تركه، أما التعارض الظاهري فلا ترجيح، وإنما يعتبر الدليلان معًا، وأن التعارض من حيث الظاهر فقط، وقد تحقق التعارض بين الأقوى والأضعف ظاهرًا، فإذا زال التعارض الظاهري، بقي معنا دليلان صحيحان، فيجب العمل بهما معًا، ولا يجوز العمل بأحدهما، وإهمال الآخر.
وبناء على قول الحنفية قدّم أبو حنيفة رحمه اللَّه تعالى حديث: "استنزهوا من البول"(2)، على ما ورد من شرب العُرَنيّين أبوال الإبل (3)، لمرجح التحريم والحظر على الإباحة، ولأن دفع الضرر أولى من جلب المنفعة.
3 - الجمع والتوفيق:
إذا تعذر الترجيح بين النصين، لجأ المجتهد إلى الجمع، أي: للتوفيق بين النصين؛ لأن إعمال الدليلين أولى من إهمالهما، أو إعمال أحدهما وإهمال الآخر.
وطرق الجمع عند الحنفية كثيرة بحسب طبيعة النصين، كالجمع بين العامين بالتنويع، والجمع بين النصين المطلقين بالتقييد، والجمع بين
(1) فواتح الرحموت (2/ 189)، التلويح على التوضيح (3/ 39) ط الخشاب، وسائل الإثبات (2/ 806).
(2)
هذا الحديث رواه الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
هذا الحديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
الخاصين بالتبعيض، والجمع بين العام والخاص بالتخصيص، وهو ما سبق بيانه في مباحث الدلالات.
مثال الجمع بين العامين بالتنويع قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بخير الشُهداء؟ هو الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها"(1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:"خيرُ أمتي القرن الذي بُعثت فيه، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونهم، ثم يَخلفُ قومٌ يَشْهدون قبل أن يُسْتشهدوا"(2)، فالحديث الأول يجيز قبول الشهادة قبل الطلب والسؤال، سواء في حقوق اللَّه، أو في حقوق العباد، ويثني على ذلك بالفضل الكبير، والحديث الثاني لا يجيزها أصلًا قبل الطلب؛ لأنها وردت في مَعرض الذَّم والقدح، مما يدل على استنكارها ورفضها، ويجمع بين الحديثين بحمل الأول على نوع من الحقوق، وهي حقوق اللَّه تعالى فقط، وتكون الشهادة حِسْبَة، ويحمل الحديث الثاني على نوع آخر، وهي حقوق العباد.
ومثال الجمع بين النصين المطلقين بالتقييد أن يقول شخص: أعط فقيرًا، ويقول مرة أخرى: لا تعطِ خالدًا، فيقيد الأمر بالمتعفف، والنهي بالمتسول.
ومثال الجمع بين الخاصين بالتبعيض أن يقول شخص: أعطِ خالدًا، ويقول مرة أخرى: لا تعطِ خالدًا، فيحمل الأمر على إعطائه حال الاستقامة، والنهي على منع الإعطاء حال الانحراف.
ومثال الجمع بين العام والخاص بالتخصيص قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنه نص عام على وجوب العدة على كل مطلقة، سواء وقع الطلاق قبل الدخول بها أو بعده، ولكنه خصص بالمطلقات قبل الدخول بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]،
(1) هذا الحديث رواه مسلم (12/ 7 رقم 1719) وأبو داود (2/ 116) والترمذي (6/ 580) ومالك (2/ 720) نشر فؤاد عبد الباقي، طبع الحلبي، القاهرة.
(2)
هذا الحديث أخرجه البخاري (2/ 938 رقم 2508) ومسلم (16/ 84، 88 رقم 2535) وأبو داود (2/ 518) والترمذي (6/ 587) والنسائي (7/ 17) والبيهقي (10/ 160) وابن حبان (موارد الظمآن ص 563).