الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وطبقاتهم في كل عصر، وفي كل مذهب، تأكد أن الاجتهاد لم يتوقف في أي مذهب وفي أي عصر، ولكن تتفاوت نسبته وعمقه، مع الاعتراف بوجود التقصير في عصور التخلف والانحطاط مما أدى إلى عدم مواكبة أحداث الزمن ووقائعه.
الاجتهاد في العصر الحاضر:
أحس المسلمون عامة، والعلماء خاصة منذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري، والعشرين ميلادي، بضررورة العودة إلى رحاب الشريعة الغراء في التطبيق والحياة، وأدركوا عوامل الخمود والكسل والركود التي سبقت ذلك، فشمروا عن ساعد الجد، وطالبوا بالالتزام بالشرع الحنيف، وساهموا في فتح الكليات والجامعات والمعاهد، ودرسوا مختلف العلوم الإسلامية، وخاصة أصول الفقه، والفقه المقارن بين المذاهب، والموازنة مع القوانين الأجنبية المستوردة، وأدلوا بدلوهم تدريجيًّا في الاجتهاد، وبيان الأحكام في النوازل والمستجدات، ومارسوا الاجتهاد عمليًّا، وتعالت أصواتهم بالدعوة مجددًا إلى فتح باب الاجتهاد، وإنهاء دعوى أو فتوى غلق باب الاجتهاد، وطلبوا من العلماء الذين تتوفر فيهم شروط الاجتهاد أن يتولوا القيام به، ولو جزئيًّا، ليعود الأمر إلى الأصل الشرعي، وقرر معظم العلماء أن باب الاجتهاد لم يغلق أصلًا، وإنما وضعت القيود عليه خشية العبث به، ولوجود الموانع أمامه، وإذا زال المانع عاد الممنوع، وأن الأمة والعلماء مدعوّون قطعًا لتحصيل شروط الاجتهاد، ثم العمل بموجبه، وأن فضل اللَّه على عباده لم ولن ينحصر في وقت دون آخر، ولم ولن يتحدد بجيل دون آخر، وأن الخير في هذه الأمة حتى تقوم الساعة، ويجب أن تنفض عن كواهلها عوارض الكسل والخمود، لتمارس نشاطها الفقهي والاجتهاد.
وإن الظروف المعاصرة تستدعي الاجتهاد وتوجبه لسببين رئيسين:
السبب الأول: الصحوة الإسلامية المعاصرة، والمرافقة للتطور التقني في تدوين الكتب الشرعية في علوم القرآن، وعلوم السنة، وأصول الفقه، والموسوعات الفقهية، وإحياء التراث، وتحقيقه، ونشره، وسهولة الطباعة لأمهات الكتب في مختلف العلوم، مما يسهل على العلماء الزاد العلمي، وييسر لهم سبل الاجتهاد.
السبب الثاني: التطور المعاصر في مختلف شؤون الحياة، وكثرة المستجدات والنوازل والوقائع التي تحتاج إلى بيان الأحكام الشرعية لها، ووجود التحدي من الأنظمة والتشريعات الوافدة من الاتجاه المعاكس، والنظريات المادية، والهيمنة الفكرية، والعولمة، والغزو الثقافي والتشريعي، وظهور الاستعمار القانوني المعاصر.
وذلك بالإضافة إلى الدواعي الشرعية السابقة لضرورة الاجتهاد، وحتمية وجوده، وأهميته، وأداء وظيفته.
وظهر في العصر الحاضر المجامع الفقهية، والندوات، والمؤتمرات التي تجمع كبار العلماء لبحث القضايا المعاصرة، والاجتهاد الجماعي فيها، وإصدار الفتاوى بالاتفاق أو بالأغلبية لبيان الحلول الشرعية لقضايا الأمة والمجتمع والمؤسسات والشركات والأفراد، واختيار الآراء المناسبة من مختلف المذاهب بما يوافق روح العصر والتقدم والرقي والمكتشفات العلمية الحديثة.
وظهر في معظم البلاد العربية والإسلامية هيئة كبار العلماء، ومجمع البحوث، ودار الفتوى، ومنصب المفتي العام، ودوائر الشؤون الإسلامية، بالإضافة إلى أساتذة الفقه وأصول الفقه وتاريخ التشريع والفقه المقارن في الكليات والجامعات والمعاهد العليا ممن يجيدون البحث العلمي، ويكتبون البحوث المحكمة والمعمقة، ويقدمون الدراسات والأوراق للندوات والمؤتمرات ومجامع الفقه، إضافة إلى كبار القضاة الذين يتمرسون على فصل المنازعات والاختلافات التي لم يسبق لها مثيل، فيجتهدون في إصدار الأحكام الشرعية فيها، ويستقر عليها العمل، وتصبح سوابق قضائية، وتنتقل من بلد إلى آخر، ومن دولة إلى أخرى، وتجمع في مدونات، وتطبع وتنشر.
وهكذا يحافظ الاجتهاد في عصرنا الحاضر -كما كان في السابق- على حياة التشريع، ومرونة الفقه، وتطوره، وفعاليته، ويحافظ الاجتهاد على بقاء الفقه الإسلامي في المعاملات، ويتطلع إليه الخاصة والعامة لحل المشكلات، وإيجاد الحلول الموافقة للشرع للمعضلات التي رانت على القلوب بعد سيطرة الفكر المادي، والاستعمار التشريعي.
وإذا كان الاجتهاد المطلق، والمجتهد المستقل، يصعب حصوله اليوم، فإن سائر أنواع الاجتهاد، وسائر طبقات المجتهدين، ومراتبهم، موجودة، وإن معظم شروط الاجتهاد -اليوم- متحققة ومتوفرة، وستبقى حتى تقوم الساعة، وهو ما عبّر عنه الغزالي والشهرستاني وابن عبد السلام والسيوطي وغيرهم، وهو ما ينادي به كبار العلماء والفقهاء في هذا العصر، لتظل راية الشرع عالية خفاقة بإذن اللَّه تعالى.