الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والشراب بعد النوم في ليل رمضان في نفس الآية السابقة (1)، فقال تعالى:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، [البقرة: 187]، ونسخ قيام الليل، ونسخ الاعتداد بحول كامل في حق المتوفى عنها زوجها، فإنه نسخ لا إلى بدل في وجه؛ لأن الاكتفاء باعتداد الزوجة أربعة أشهر وعشرًا لا يصلح بدلًا؛ لأنه يشترط في البدل أن يكون مساويًا للمبدل منه، وقوله تعالى:{نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، [البقرة: 106]، فالمراد نسخ لفظ الآية، وأن إسقاط الحكم المنسوخ خير من ثبوته.
وقول الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "وليس ينسخ فرض أبدًا إلا أثبت مكانه فرض"، فالمراد أنه ينقل من حظر إلى إباحة، أو من إباحة إلى حظر، أو يخيّر على حسب الأحوال المفروض" (2).
أنواع النسخ:
ينقسم النسخ عدة أقسام باعتبارات متعددة، أهمها أربعة:
التقسيم الأول: أنواع النسخ باعتبار البدل في الدليل الناسخ:
ينقسم النسخ باعتبار البدل إلى ثلاثة أنواع، وهي:
1 -
النسخ إلى الأخف: وهو نسخ الحكم الأغلظ إلى حكم أخف منه،
(1) روى البخاري أنه إذا دخل وقت الفطر، فنام قبل أن يفطر، حَرُم الطعام والشراب وإتيان النساء إلى الليلة الآتية (صحيح البخاري 2/ 676 رقم 1816) وفي مكان آخر قال: "وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل اللَّه:{عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} (صحيح البخاري 4/ 1638 رقم 4238).
(2)
الرسالة ص 109، وانظر: المستصفى (1/ 119)، المعتمد (1/ 415)، البرهان (2/ 1313)، المحصول (3/ 479)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (2/ 87)، الإحكام للآمدي (3/ 135)، نهاية السول (2/ 177)، المسودة ص 198، روضة الناظر ص 82، شرح العضد (2/ 193)، فواتح الرحموت (2/ 69)، شرح الكوكب المنير (3/ 545)، شرح تنقيح الفصول ص 308، العدة (3/ 783)، إرشاد الفحول ص 187، (2/ 543 ط محققة) المدخل إلى مذهب أحمد ص 99، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 960).
مثل نسخ العدّة للمتوفى عنها زوجها من الحول الكامل إلى أربعة أشهر وعشر، ونسخ الحكم بوجوب مصابرة العشرين من المسلمين لمائتين من الكفار، والمائة لألف في الآية السابقة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65)} [الأنفال: 65]، إلى مصابرة المائة بمائتين، والألف من المسلمين لألفين من الكفار {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)} [الأنفال: 66]، فأوجب مصابرة الضعف فقط، وهو أخف من الأول.
2 -
النسخ إلى المساوي: وهو نسخ الحكم إلى حكم آخر يساويه في التخفيف والتغليظ، كنسخ استقبال بيت المقدس بالكعبة.
وهذان النوعان متفق عليهما.
3 -
النسخ إلى الأثقل: وهو أن ينسخ الحكم إلى حكم آخر أثقل منه على المكلف، أو أشد منه، أو أغلظ، وهذا مختلف فيه.
فقال الجمهور بجوازه (1) كالعكس؛ لأن التكليف يرد على حسب ما يعلم اللَّه تعالى من المصالح للمكلف، وقد تكون المصلحة تارة في الأخف، وتارة في الثقل، والدليل على جوازه وقوعه فعلًا في الشرع، مثل الكف عن الكفار كان واجبًا بقوله تعالى:{وَدَعْ أَذَاهُمْ} [الأحزاب: 48]، ثم نسخ بإيجاب القتال، وهو أثقل، أي: أكثر مشقة، ولكنه فيه مصلحة أعظم
(1) نسب بعض العلماء للشافعي بالمنع استنادًا إلى عبارته في "الرسالة": "إنَّ اللَّه فرض فرائض أثبتها، وأخرى نسخها رحمة وتخفيفًا لعباده" قال ابن برهان وغيره: وهذا الفهم ليس بصحيح؛ لأن عبارة الشافعي تطلق على اكثر من النسخ، وأنه لم يقصد ذلك، وإنما ذكره في الفرائض مما لم يلزم فأسقط، وقال الزركشي رحمه اللَّه تعالى:"وليس في ذلك عن الشافعي شيء نقطع به، والظاهر أنه إنما أشار به إلى وجه الحكمة في النسخ، والصحيح الجواز؛ لأن النسخ للابتلاء، وقد يكون لمصلحة، تارة في النقل إلى ما هو أخف، وتارة أشق"(البحر المحيط 4/ 96).
بالشهادة والدعوة إلى الإسلام، وحماية الدين والأنفس والأعراض والأموال، ومثل نسخ الإمساك في البيوت للمرأة، والتعنيف للرجل في الزنا بالجلد والرجم (1)، ومثل نسخ وجوب صوم عاشوراء بصوم رمضان (2)، ومثل نسخ التخيير الذي كان في أول الإسلام بين الصوم والفدية بالمال بفرضية الصيام على قول (3)، ومثل نسخ تحليل الخمر بتحريمها، ونسخ نكاح المتعة بعد تجويزها على القول بأن ذلك نسخ.
وخالف بعض الظاهرية وبعض الشافعية، وقالوا: لا يجوز النسخ إلى الأثقل والأغلظ والأشد، واستدلوا بقوله تعالى:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ، بالبقرة: 106]، ولما فيه من التنفير.
ويرد عليهم أن الناسخ والمنسوخ هما من اليسر، أو أن المراد اليسر في الآخرة، بيسر الحساب وتخفيفه، أو أن الأغلظ في الناسخ إنما هو بالنسبة إلى المنسوخ، وهو بالنسبة إلى غيره تخفيف ويسر، كما أن الخير في الآية الثانية ينطبق على أن الناسخ الأغلظ ثوابه أكثر، فهو خير من المنسوخ من هذه الحيثية (4).
(1) انظر: الفصول (3/ 7).
(2)
إن القول بوجوب صوم عاشوراء في أول الإسلام هو قول أبي حنيفة رحمه اللَّه تعالى، وأنه كان واجبًا، ولكن الشافعي وأحمد وغيرهما يقولون: إنه لم يكن واجبًا، وإنما كان متأكد الاستحباب (انظر: شرح الكوكب المنير (3/ 550) والمراجع المشار إليها فيه كمرقاة المفاتيح (2/ 551)، المجموع شرح المهذب (6/ 363)، المغني لابن قدامة (3/ 104).
(3)
وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ، [البقرة: 184]، قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: لما أنزلت هذه الآية كان من أراد أن يفطر يفطر ويفدي، حتى نزلت {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، [البقرة: 185]، أخرجه البخاري (4/ 1638 رقم 4236) ومسلم (8/ 20 رقم 1145).
(4)
المستصفى (1/ 120)، الإحكام للآمدي (3/ 137)، المعتمد (1/ 416)، المحصول (3/ 480)، التبصرة ص 458، الأحكام لابن حزم (4/ 466)، نهاية السول (2/ 177)، المحلي والبناني على جمع الجوامع (2/ 87)، أصول السرخسي (2/ 62)، كشف الأسرار (3/ 187)، التلويح على التوضيح (2/ 36)، فواتح الرحموت (2/ 71)، شرح تنقيح =
التقسيم الثاني: أنواع النسخ باعتبار الحكم الشرعي:
ينقسم النسخ باعتبار حكمه الشرعي إلى خمسة أنواع، وهي:
1 -
نسخ الحكم بدون بدل، وهو ما سبق بيانه في عدم اشتراط البدل، كنسخ تقديم الصدقة بين مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو نسخ نهائي بلا بدل.
2 -
نسخ الوجوب إلى الندب، كنسخ ثبات الواحد للعشرة إلى ثباته للاثنين، ولكن ثباته للعشرة يبقى مندوبًا، ونسخ وجوب قيام الليل فصار مندوبًا.
3 -
نسخ الوجوب إلى الإباحة، كترك المباشرة بالليل للصائم بعد النوم، فصار مباحًا.
4 -
نسخ التحريم إلى الإباحة، كنسخ تحريم زيارة القبور، وأصبحت مباحة، أو مندوبة أحيانًا، ونسخ تحريم ادّخار لحوم الأضاحي إلى إباحته.
5 -
نسخ التخيير بين شيئين بإسقاط أحدهما وانحتام الآخر، كالتخيير في رمضان في أول الإسلام بين الصيام والفدية على قول ذكرناه سابقًا إلى انحتام الصوم (1).
التقسيم الثالث: أنواع النسخ باعتبار قوة الدليل الناسخ:
ينقسم النسخ باعتبار قوة الدليل الناسخ إلى ثلاثة أنواع، وهي:
1 -
الناسخ والمنسوخ متساويان في القوة؛ وذلك كنسخ القرآن بالقرآن، ونسخ الحديث المتواتر بالحديث المتواتر، ونسخ خبر الآحاد بخبر الآحاد، وهذا باتفاق، وسوف نفصل ذلك في الحالات.
أما الإجماع فلا يُنسخ بالإجماع، والقياس لا يُنسخ بالقياس عند جماهير العلماء.
= الفصول ص 308، شرح العضد (2/ 193)، المسودة ص 201، روضة الناظر ص 82، شرح الكوكب المنير (3/ 549)، البحر المحيط (4/ 95)، الفصول (2/ 223)، العدة (3/ 785)، الحاوي للماوردي (20/ 135)، إرشاد الفحول ص 188 (2/ 545 ط محققة) أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 961).
(1)
البحر المحيط (4/ 97)، الحاوي الكبير للماوردي (20/ 135).
2 -
الناسخ أقوى من المنسوخ: يجوز نسخ الآحاد بالمتواتر، ويجوز نسخ السنة بالقرآن عند الجمهور خلافًا للشافعي رحمه اللَّه تعالى؛ لأنه ينكر نسخ القرآن بالسنة، والسنة بالقرآن كما سنبين.
3 -
الناسخ أضعف من المنسوخ: لا يصح النسخ بالأضعف في الجملة، أما في التفصيل فقال بعض العلماء بصحته ووقوعه، كنسخ الخبر المتواتر بالحديث المشهور عند الحنفية، ونسني القرآن بالسنة، ونسخ المتواتر بالآحاد عند الأكثرين (1)، وسنذكر تفصيل ذلك مع الأمثلة.
التقسيم الرابع: أنواع النسخ بالنسبة للتلاوة والحكم:
ينقسم نسخ القرآن بالقرآن باعتبار التلاوة والحكم بحسب كيفية وقوع النسخ، إلى ثلاثة أنواع، وهي:
1 -
نسخ التلاوة والحكم: يجوز نسخ تلاوة آية ونسخ حكمها معًا، ودليله نسخ صحف إبراهيم ومن تقدم من الرسل عليهم السلام، فكانت نازلة تقرأ ويعمل بها، قال تعالى:{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)} [الشعراء: 196]، وقال تعالى:{إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 18 - 19]، وقال تعالى:{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36 - 37]، ثم نسخت ولم يبق منها شيء في أيدينا لا تلاوة ولا عملًا، فيدل على انتساخ التلاوة والحكم معًا.
ومثاله في شرعنا ما روته عائشة رضي الله عنها قالت: "كان فيما أنزل من
(1) الرسالة ص 106، المستصفى (1/ 124)، المعتمد (1/ 422)، البرهان (2/ 1307)، الإحكام للآمدي (3/ 146)، الإحكام لابن حزم (4/ 477)، المحصول (3/ 495)، البحر المحيط (4/ 108)، الفصول (2/ 323، 342)، أصول السرخسي (2/ 67)، كشف الأسرار (3/ 175)، فواتح الرحموت (2/ 76)، شرح تنقيح الفصول ص 311، العدة (2/ 802)، المسودة ص 205، شرح الكوكب المنير (3/ 559)، نهاية السول (2/ 181)، إرشاد الفحول ص 190، (2/ 553 ط محققة)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي 2/ 963، أصول الأحكام ص 354.
القرآن: (عشر رضعات معلومات مُحَرِّمات) ثم نُسِخْنَ بخمس معلومات" (1)، فلم يبق هذا اللفظ في القرآن تلاوة، ونسخ حكم العشر، ولذلك يجوز للمحدث مسُّ ما نسخ لفظه، ويجوز للجنب والحائض قراءته (2).
2 -
نسخ الحكم دون التلاوة: يجوز نسخ الحكم لإنهاء العمل به، مع بقاء الآية المنسوخة تُتلى في القرآن، وبقي اللفظ، وله حكم آيات القرآن في التلاوة، مثل آية المناجاة والصدقة بين يديها، ولم يعمل بهذه الآية المنسوخة قبل نسخها إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومثل الاعتداد في الوفاة بالحول الذي نسخ باعتداد بأربعة أشهر وعشر، ونسخ الوصية للوالدين والأقربين بآيات الميراث، ونسخ حبس المرأة في البيت وإيذاء الرجل باللسان في حد الزنا بآية الجلد والرجم.
والفائدة من بقاء التلاوة لمعرفة تاريخ التشريع، والتدرج في الأحكام، وللإعجاز بنظم المنسوخ لغيره من الآيات.
3 -
نسخ التلاوة دون الحكم: يجوز نسخ تلاوة كلمات أنزلت في القرآن مع بقاء حكمها الذي دلت عليه الكلمات المنسوخة، ومثاله ما رواه عمر رضي الله عنه أنه قال:"إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم، أو يقول قائل: لا نجدُ حدَّين في كتاب اللَّه، فلقد رجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا، والذي نفسي بيده لولا أن يقول الناس: زاد عمر في كتاب اللَّه، لأثبتها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة) فإنا قد قرأناها"(3)، وفي رواية الصحيحين عن عمر رضي الله عنه أنه قال:"كان فيما أُنزل آيةُ الرجم، فقرأناها وعقلناها، ورجم رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده"(4)، ولذلك أجمع العلماء على أن حد المحصن الرجم، فهذا الحكم باق، واللفظ مرتفع؛ لرجم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم
(1) هذا الحديث أخرجه مسلم (10/ 29 رقم 1452) وأبو داود (1/ 476) ومالك (الموطأ ص 376) والترمذي والدارمي.
(2)
انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه، لمكي بن أبي طالب ص 44، 45، 60، شرح الكوكب المنير (3/ 557)، الحاوي للماوردي (20/ 134)، والمراجع التي سترد في النوع الثالث.
(3)
هذا الحديث أخرجه مالك والشافعي وابن ماجه (2/ 853).
(4)
هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم.