الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس طريقة الاجتهاد
إن المجتهد إذا عرضت له قضية أو مسألة، فإنه يسير حسب
الخطوات والمراحل
التالية:
1 -
الرجوع إلى النصوص القطعية، فإن وجد فيها حكم المسألة بدلالة قطعية، قال به، والتزمه، وأفتى به، ولا يجوز له مطلقًا مخالفته والخروج عنه.
فإن كانت الدلالة ظنية للنصوص القطعية، لكن اجتهد فيها السابقون، واتفقوا على حكم، كان إجماعًا، والتزم به، وعمل بموجبه، وأفتى به كالسابق.
فإن لم يتفقوا على حكم، وكان لكل منهم رأي، فإن كان السابقون من الصحابة، أخذ بما يعتقده في قول الصحابي، من اتباع أحدهم وعدم الخروج عنهم، أو الاجتهاد مثلهم، كما هو مبين في مذهب الصحابي.
وإن لم يكن المجتهدون السابقون من الصحابة، وجب على المجتهد أن يبذل وسعه وينظر في الأدلة، ويجتهد، سواء وافق رأيه رأي أحدهم، أو خالف الجميع.
2 -
الرجوع إلى النصوص الظنية الثبوت، أو ظنية الثبوت والدلالة، ويعمل بالخطوات السابقة في النصوص القطعية الثبوت الظنية الدلالة.
3 -
عند عدم النص، فإن اجتهد السابقون وأجمعوا على رأي، صار له حكم الإجماع، وإن اختلف الصحابة، عمل برأيه في مذهب الصحابي، وإن كان الاختلاف من غيرهم، لزمه الاجتهاد.
4 -
إن منهج الاجتهاد أن يرجع إلى النصوص لعلّه يجد فيها دلالة على الواقعة المعروضة عليه بالنص، أو الظاهر، وسائر أنواع الدلالات، ويجهد نفسه في معرفة مقاصد الشريعة، واستنباط العلل؛ ليطبق ذلك على الواقعة.
5 -
إن لم يجد المجتهد لذلك حكمًا من الاجتهاد في النصوص، اتجه إلى جمع كل ما يتصل بالواقعة من معان لغوية، ونصوص قرآنية، وأحاديث نبوية، وأقاويل السلف، وأوجه القياس الممكنة، واتجه بقلبه مخلصًا لمعرفة
حكم اللَّه تعالى فيها من دون تعصب أو تحمل، أو تهور أو تقصير، فما وصل إليه اجتهاده، فهو حكم اللَّه تعالى الذي يجب عليه التزامه، والعمل به، والفتوى فيه.
واستحسن الشوكاني منهج الشافعي رحمه اللَّه تعالى (1)، الذي حكاه عنه الغزالي، ولخص فيه طريقة الاجتهاد فقال:"إذا وقعت الواقعة للمجتهد، فليعرضها على نصوص الكتاب، فإن أعوزه، عرضها على الخبر المتواتر، ثم الآحاد، فإن أعوزه لم يخففي القياس، بل يلتفت إلى ظواهر الكتاب، فإن وجد ظاهرًا، نظر في المخصصات من قياس وخبر، فإن لم يجد مخصصًا، حكم به، وإن لم يعثر على ظاهر من كتاب ولا سنة، نظر إلى المذاهب، فإن وجدها مجمعًا عليها، اتبع الإجماع، وإن لم يجد إجماعًا، خاض في القياس، ويلاحظ القواعد الكلية أولًا، ويقدمها على الجزئيات، كما في القتل بالمثقل، فتقدم قاعدة الرح على مراعاة الاسم، فإن عدم قاعدة كلية، نظر في المنصوص ومواقع الإجماع، فإن وجدها في معنى واحد، ألحق به، وإلا انحدر به إلى القياس، فإن أعوزه، تمسك بالشَبَه، ولا يُعوّل على طرد"(2).
ويعرض أبو بكر الرازي الجصاص الحنفي رحمه اللَّه تعالى وجوه الاجتهاد فيقول: "واسم الاجتهاد في الشرع ينتظم ثلاثة معان:
أحدها: القياس الشرعي على علة مستنبطة، أو منصوص عليها، فيردُّ بها الفرع إلى أصله، ونحكم له بحكمه، بالمعنى الجامع بينهما، وإنما صار هذا من باب الاجتهاد -وإن كان قياسًا- من قبل أن تلك العلة لما لم تكن موجبة للحكم؛ لجواز وجودها عارية منه، وكانت كالأمارة، وكان طريق إثباتها علامةً للحكم: الاجتهادَ وغالبَ الظن، لم يوجب ذلك لنا العلم بالمطلوب، فلذلك كان طريقه الاجتهاد.
والضرب الثاني من الاجتهاد: هو ما يغلب في الظن من غير علة يجب
(1) وقال الشافعي رحمه اللَّه تعالى في رسالته: "ولم يَجْعل اللَّه لأحدِ بعدَ رسول اللَّه أَنْ يقولَ إلا من جهة علمٍ مضى قبله، وجهةُ العلم بعدُ: الكتابُ والسنةُ والأجماع والآثار، وما وصفت من القياس عليها" الرسالة ص 258 طبعة دار النفائس، بيروت، د. ت، وانظر بقية كلامه في الاجتهاد، والقياس، والشروط المطلوبة فيهما.
(2)
إرشاد الفحول ص 258.
بها قياس الفرع على الأصل، كالاجتهاد في تحري جهة الكعبة لمن كان غائبًا عنها، وكتقويم المتلفات، وجزاء الصيد، والحكم بمهر المثل، ونفقة المرأة والمعتدة ونحوها، فهذا الضرب من الاجتهاد كُلِّفنا فيه الحكم بما يؤدي إليه غالب الظن، من غير علة يقاس بها فرع على أصله.
الضرب الثالث: الاستدلال بالأصول (1).
ويبين الماوردي رحمه اللَّه تعالى وجوه الاجتهاد ومنهجه، ويقسمها إلى ثمانية أقسام، وهي:
"أحدها: ما كان حكم الاجتهاد مستخرجًا من معنى النص، كاستخراج علة الربا من البُرِّ، فهذا صحيح غير مدفوع عنه عند جميع القائلين بالقياس.
والقسم الثاني: ما كان مستخرجًا من شَبَه النّص، كالعبد في ثبوت تملكه، لتردُّدِ شَبَهه بالحر في أنه يَمْلك؛ لأنه مكلف، وشَبَهِه بالبهيمة في أنه لا يَمْلك؛ لأنه مملوك، وهذا صحيح وليس بمدفوع عنه عند من قال بالقياس، ومن لم يقل، غير أن من لم يقل بالقياس، جعله داخلًا في عموم أحد الشبهين، ومن قال بالقياس جعله ملحقًا بأحد الشبهين.
القسم الثالث: ما كان مستخرجًا من عموم النص، كالذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى:{إلا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، يعم الأب والزوج، والمراد به أحدهما، وهذا صحيح يُوصل إليه بالترجيح.
القسم الرابع: ما كان مستخرجًا من إجمال النص، كقوله تعالى في متعة الطلاق:{وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، فصح الاجتهاد في إجمال قدر المتعة باعتبار حال الزوجين.
القسم الخامس: ما كان مستخرجًا من أحوال النص، كقوله تعالى في متعة الحج: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ
(1) الفصول (4/ 11 - 12)، ونقل ذلك الزركشي عنه بتصرف في البحر المحيط (6/ 197 - 198).
وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196]، فأطلق صيام الثلاثة في الحج، فاحتمل: قبل عرفة، وبعدها، وأطلق صيام السبعة إذا رجع، فاحتمل: إذا رجع في طريقه، وإذا رجع إلى بلده، فصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين.
القسم السادس: ما كان مستخرجًا من دلائل النص، كقوله تعالى في نفقة الزوجات:{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7]، فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدَّين، بأنه أكثر ما جاءت به السنة في فدية الأذى لكل مسكين مُدَّيْن، واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بمدّ، بأقل ما جاءت به السنة في كفارة الوطء في شهر رمضان، لكل مسكين مدًّا.
القسم السابع: ما كان مستخرجًا من أمارات النص، كاستخراج دلائل القبلة فيمن خفيت عليه من قوله:{وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} [النحل: 16]، فصح الاجتهاد في القبلة بالأمارات الدالة عليها من هبوب الرياح ومطالع النجوم.
القسم الثامن: ما كان مستخرجًا من غير نص، ولا أصل، فقد اختلف في صحة الاجتهاد فيه بغلبة الظن على وجهين:
أحدهما: لا يصح الاجتهاد بغلبة الظن حتى يقترن بأصل؛ لأنه لا يجوز أن يرجع في الشرع إلى غير أصل، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي، ولذلك أنكر الاستحسان؛ لأنه تغليب ظن بغير أصل.
والوجه الثاني: يصح الاجتهاد به؛ لأن الاجتهاد في الشرع أصل، فجاز أن يستغني عن أصل، وقد اجتهد العلماء في التعزير على ما دون الحدود بآرائهم في أصله من ضرب وحبس، وفي تقديره بعشر جلدات في حال، وبعشرين في أخرى، وبثلاثين في أخرى، وليس لهم في هذه المقادير أصل مشروع.
والفرق بين الاجتهاد بغلبة الظن، وبين الاستحسان: أن الاستحسان يترك به القياس، والاجتهاد بغلبة الظن يستعمل مع عدم القياس" (1).
(1) الحاوي (20/ 187 - 188)، ومعظم الأمثلة من المذهب الشافعي، ونقلنا النصين من الفصُول والبحر بطولهما لبيان وجوه المجتهد فيه من جهة، وللاطلاع على أسلوب السلف من العلماء للتمرس عليه والاستفادة منهم، ونقل كل من الزركشي والشوكاني كلام =