الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثلاث السابقة، فذهب الجمهور إلى الاحتجاج بمفهوم المخالفة عند القيد بشرط، أو صفة، أو عدد، أو غاية، أو حصر، ويكون مفهوم المخالفة حجة على ثبوت نقيض الحكم المنطوق للمفهوم عند عدم القيد، والنصُّ يدل بمنطوقه على حكم، وبمفهومه المخالف على نقيض الحكم الأول، واستدلوا بأن ذلك متبادر للأذهان، ويتفق مع المنطق البياني، وأساليب العربية، حتى لا يكون القيد عبثًا لا فائدة له، مع أن كلام الشرع منزه عن العبث.
وذهب الحنفية ومن معهم إلى عدم الاحتجاج بمفهوم المخالفة، واعتبروه من الاستدلالات الفاسدة، وأن النص الشرعي يدل على حكم المنطوق فقط، ويجب البحث عن حكم المسكوت عنه عند فقد القيد، بدليل أن دلالة المفهوم ليس مطردًا في أساليب اللغة، وورد مثله كثيرًا في الشرع فيما ذكره الجمهور في الشروط، مع اختلاف القائلين بمفهوم المخالفة في كثير من أمثلته، واحتمال الخطأ والغلط في استنباط المفهوم، وهو ممتنع شرعًا.
واستدل كل فريق بأدلة أخرى، ونكتفي بما سبق؛ لأنه يحقق المقصود، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتب الأصول والفقه (1).
ملحق: دور القياس في تفسير النصوص:
إن النصوص سواء كانت شرعية أم قانونية لا يمكن أن تغطي جميع الصور والحالات والوقائع والأحداث، التي تقع في الحياة، كما أن التشريع لا يمكن أن يتناول الوقائع والأحداث التي تقع في المستقبل، ويتفتق عنها الذهن، ويخترعها التطور والعقل، سواء كان في المعاملات أو في المخالفات والجنايات أو في الضرائب وغيرها.
وإن النصوص -سواء كانت شرعية أم قانونية- إنما شرعت لتحقيق
(1) المراجع الأصولية السابقة في مفهوم المخالفة، وخاصة: شرح الكوكب المنير (3/ 487) وما بعدها، تفسير النصوص (1/ 670) وما بعدها، إرشاد الفحول ص 181 وما بعدها، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (1/ 367) وما بعدها، أصول الأحكام ص 264، أثر الاختلاف في القواعد الأصولية ص 174.
مصالح الناس، وبنيت على عللٍ مطّردة، وليست عبثًا لغير علة، إلا ما ورد فيه نص خاص لحالة خاصة بدليل مقبول.
لذلك فتح الشرع والعقل باب الاجتهاد، وشرع القياس، ليتم تطبيق النصوص السابقة علي جميع الحالات والصور والوقائع المستجدة التي تماثل ما تمَّ النص عليه، هذا ما يقتضيه العقل، والمنطق، والعدل، بأن تكون الحالات المتشابهة لها أحكام واحدة.
وهنا يأتي دور العلماء والفقهاء والأئمة والمجتهدين والمفسرين وشراح القوانين والقضاة والمحامين لبيان علة الحكم، ودلالة النص، ومن ثمَّ تعدّيه إلى الحالات المتماثلة ليشمل النّص الجميع، ويتم القياس عمليًّا (1)، وذلك بمعناه العام الذي يشمل مختلف صنوف الاجتهاد فيما لا نص فيه.
والأمثلة على ذلك كثيرة جدًّا، وسبق بيان بعضها في باب القياس، وفي الدلالات وتفسير النصوص، وإن وقع اختلاف في الاجتهاد والتطبيق فلا ضَيْر فيه، فالاختلاف واقع حتمًا، وعلامة صحة، وليس علة مرض.
فمن ذلك الاستدلال بدلالة النص، أي ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة يفهمها كل عارف باللغة، وذلك أن القارئ أو السامع يفهم من روح النص ومعقوله أنه يدل على محل النطق، وعلى كل واقعة تشابهه وتساويه في العلة، كمن يسمع قوله تعالى في الوصية بالوالدين:{فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، فيدرك أنه يحرم الضرب بالأولى، ومن يسمع قوله تعالى عند الوصية بالتيامى:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)} [النساء: 10]، فيدرك من النص حرمة أكل مال اليتيم، ويفهم فورًا أنه يحرم إتلافه وحرقه وغصبه والاعتداء عليه.
(1) نذكّر بتعريف القياس بأنه إلحاق واقعة لا نص على حكمها بموافقة ورد نص. بحكمها، في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا الحكم، علم أصول الفقه، خلاف ص 52.
والقاضي يحرص على تطبيق النص الشرعي أو القانوني على الحالة التي ورد النص فيها، ويدرك بداهة أنه يجب تطبيق النص على جميع الصور والحالات التي تستجد أو تطرأ أو تقع مشابهة لما ورد في النص، ويطبق نفس الحكم المدني، أو نفس العقوبة على جميع الحالات المتماثلة.
ومن الأمثلة القانونية أن القانون المدني نص على حجية الورقة الموقَّع عليها بالإمضاء؛ لأن توقيع الموقع يذل على شخصه، وقاس الشراح والقضاة عليها الورقة المبصومة بالأصبع، وأنها حجة على باصمها؛ للاشتراك في العلة، ثم تعدلت النصوص وأضيفت البصمة بالنص.
ونص قانون العقوبات على منع المحاكمة في السرقة بين الأصول والفروع وبين الزوجين إلا بناء على طلب المجني عليه؛ لعلة القرابة والزوجية بين الجاني والمجني عليه، وقاس الشراح والقضاة على السرقة النصب واغتصاب المال بالتهديد وإصدار شيك بدون رصيد بين الأصول والفروع وبين الزوجين، لوجود نفس العلة بين الجناة والمجني عليهم (1).
وإذا أخذنا القياس بمعناه الواسع الشامل فإنه يشمل جميع الاجتهادات والمصادر التبعية أو الاختلافات الفقهية وآراء المجتهدين والفقهاء والعلماء، ويشمل آراء شراح القوانين واجتهادات القضاة والمحاكم، وحتى اجتهادات محكمة النقض واللوائح التي تفسر وتشرح الأنظمة والقوانين الصادرة من المجالس التشريعية.
(1) علم أصول الفقه ص 53.