الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجمود النشاط العلمي، وشيوع المذاهب الفقهية واستقرارها، ونتج عن ذلك التعصب المذهبي، والعكوف على نصوص الأئمة والفقهاء السابقين، وإثارة الخلافات المذهبية، والمناظرات والمجادلات الضيقة، والوقوف على الفروع الفقهية والجزئيات الخلافية، مع ضعف الملكات، وغياب الحركة الاجتهادية، وضعف الوازع الديني، حتى وصل الأمر إلى ادّعاء الاجتهاد من غير أهله، والتصدي للفتوى وإبداء الآراء المخالفة لأبسط الأسس والقواعد الشرعية، ولذلك أعلن كثير من العلماء غلق باب الاجتهاد؛ لسد الطريق أمام الجهال أو أنصاف العلماء، للوقوف حصرًا على أقوال المذهب المنتشرة والسائدة، وذلك بحسن نية، ومن باب السياسة الشرعية التي تعالج حالة قائمة، أو أمرًا مؤقتًا، أو فوضى اجتهادية، وظرفًا طارئًا، وليس لها دليل شرعي صحيح، أو حجة قوية، ثم شاع ذلك وانتشر (1).
وكان من أثر هذه الدعوة، ورفع هذا الشعار أن فترت الهمّة، وجمد النشاط، وخف الاجتهاد إلى أدنى مستواه، وانصرف معظم الفقهاء إلى تدوين الكتب المذهبية والخلافية، واختصارها في متون، ثم وضع الشروح والحواشي عليها، وجمع أقوال إمام المذهب، ولمّ شتات الوجوه وأقوال الأصحاب والأتباع، مع الالتزام المذهبي والتعصب له، وعدم قبول رأي المذهب الآخر، حتى ضاق بعض الحكام والناس من الفراغ التشريعي لتطور، الحياة ومستجدات الزمن، واستغل أعداء الإسلام هذه الحالة، فجاؤوا بتشريعاتهم ونظمهم التي فرضوها على المسلمين.
فتح باب الاجتهاد:
إن الأسباب التي دعت بعض العلماء إلى الفتوى بقفل باب الاجتهاد لم تكن عامة، ولم يتم الاتفاق عليها، ولم تصدر بصيغة رسمية بمنع العلماء من
(1) يقول الشيخ محمد سعيد الباني رحمه اللَّه تعالى عن دعوى سد باب الاجتهاد: "دعوى فارغة، وحجة واهنة، أوهن من بيت العنكبوت؛ لأنها غير مستندة إلى دليل شرعي أو عقلي سوى التوارث" عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص 62، وانظر: إرشاد الفحول ص 253، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1085)، أصول الأحكام ص 363.
الاجتهاد، بل بقي الباب مفتوحًا، وإن ولجه القليلون، ومارسه بعض الأفراد.
وكانت أبواب العلم مفتوحة، والمدارس والمعاهد والجامعات والمساجد العلمية تمارس وظيفتها إلى حد ما، ومن هنا ظهر في كل مذهب، وفي كل بلد، وفي كل عصر، عدد من فقهاء المذاهب، ووصل كثير منهم إلى درجة الاجتهاد، إما لطبقة المجتهد في المذهب، أو مجتهد التخريج، أو مجتهد الترجيح، أو مجتهد الفتيا، وأعلن كثير منهم الوصول إلى درجة الاجتهاد، ولكن الظروف والتعصب وشيوع الجمود لم تشجعه على ذلك، ولم تفتح له الأذهان، مع انتشار فتوى غلق باب الاجتهاد، وضعف الثقة بالنفس أحيانًا، وبسبب الحسد والتعصب أحيانًا أخرى.
ومن رجع إلى كتب تاريخ التشريع الإسلامي عامة، وكتب طبقات الفقهاء في كل مذهب، تيقن وجود هؤلاء المجتهدين غير المستقلين، والذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد المطلق أو المجتهد المستقل (1).
ويتأكد ذلك يقينًا بأن العصور التي عرفت بسد باب الاجتهاد هي التي ظهر فيها العلماء في كل مذهب يحققون آراءه، ويرجحون بين الروايات، ويمحصون الأدلة، ويحددون القول الراجح والمعتمد في المذهب من جهة، ثم يخرجون الآراء للقضايا المستحدثة، والأمور الطارئة قياسًا على ما ورد في المذهب، وتفريعًا لأصوله وقواعده، من أمثال الكمال بن الهمام وابن عابدين في المذهب الحنفي، والشيخ خليل والقرافي والونشريسي في
(1) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "وأما قول الغزالي: وقد خلا العصر عن المجتهد المستقل، فقد سبقه إليه القفال شيخ الخراسانيين، فقيل: المراد مجتهد قائم بالقضاء، فإن المحققين من العلماء كانوا يرغبون عنه، ولا يلي في زمانهم غالبًا إلا من هو دون ذلك، وكيف يمكن القضاء على الأعصار، بخلوها عن مجتهد؟ والقفال نفسه كان يقول للسائل في مسألة الصبرة: تسأل عن مذهب الشافعي أم ما عندي؟ وقال هو، والشيخ أبو علي الطبري والقاضي حسين: لسنا مقلدين للشافعي، بل وافق رأينا رأيه، فهذا كلام من يدّعي رتبة الاجتهاد، ولم يختلف اثنان أن ابن عبد السلام بلغ رتبة الاجتهاد، وكذلك ابن دقيق العيد، كما قاله ابن الرفعة" البحر المحيط (6/ 208 - 209).
المذهب المالكي، والرافعي والنووي والرملي في المذهب الشافعي، وابن قدامة وابن مفلح ويونس البهوتي في المذهب الحنبلي، والصنعاني والشوكاني في المذهب الزيدي، وغيرهم كثير، وفي سائر المذاهب، ممن كان لهم الفضل في تنقيح المذهب، وتحقيقه، ونقله، والتدليل للمعتمد فيه، والتصنيف فيه، وتعلميه، وتخريج المسائل الجديدة قياسًا على نظائرها وأشباهها، ولكنهم لم يستطيعوا مسايرة ومجاراة التقدم الدائم، أو التطور السريع، والنوازل الواقعة (1).
وأكد العلامة السبوطي رحمه اللَّه تعالى (911 هـ) على وجود الاجتهاد طوال التاريخ الإسلامي، وأنه مستمر في جميع المراحل، وأنه ظهر في كل بلد، وفي كل مذهب، عدد من العلماء الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، والذين مارسوه فعلًا، وسمى كتابه "الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"، وجمع نصوص العلماء من جميع المذاهب الفقهية القائلين بفرضية الاجتهاد وذم التقليد، ووجود المجتهدين فعلًا في كل مذهب، ومما نقله عن محيي السنة أبي محمد البغوي في كتابه "التهذيب" وهو من أجل الكتب المصنفة في الفقه، قوله: "العلم ينقسم إلى فرض عين وفرض كفاية
…
، وفرض الكفاية هو أن يتعلم ما يبلغ رتبة الاجتهاد ومحل الفتوى والقضاء، ويخرج من عداد المقلدين، فعلى كافة الناس القيام بتعلمه، غير أنه إذا قام من كل ناحية واحد أو اثنان سقط الفرض عن الباقين، فإذا قعد الكل عن تعلمه عصَوْا جميعًا؛ لم فيه من تعطيل أحكام الشرع، قال اللَّه تعالى:{فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)} [التوبة: 122]، إلى آخر كلامه" (2).
وسبق إلى ذلك الشهرستاني رحمه اللَّه تعالى (548 هـ) في كتابه "الملل والنحل" وبيَّن عصيان أهل العصر بأسرهم إذا قصروا في القيام بفرض
(1) قال الزركشي رحمه اللَّه تعالى: "والحق أن العصر خلا عن المجتهد المطلق، لا عن مجتهد في مذهب أحد الأئمة الأربعة" البحر المحيط (6/ 209).
(2)
الرد على من أخلد إلى الأرض ص 4، طغ دار الكتب العلمية - بيروت - تحقيق الشيخ خليل الميس - سنة (1403 هـ / 1983 م).
الاجتهاد، وأقام الأدلة على فرضيته، ومنها الدليل العقلي القطعي، فقال:"وبالجملة نعلم قطعًا ويقينًا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعًا أيضًا أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يُتصور ذلك أيضًا، والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلم قطعًا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد"(1).
وسبق الاثنين حُجة الإسلام أبو حامد الغزالي رحمه اللَّه تعالى (505 هـ) فقال: الاجتهاد ركن عظيم في الشريعة، لا ينكره منكر، وعليه عول الصحابة، بعد أن استأثر اللَّه برسوله صلى الله عليه وسلم، وتابعهم عليه التابعون إلى زماننا هذا، ولا يستقل به أحد، ولكن لا بدَّ من أوصاف وشرائط، مجملها أن نقول: المجتهد: هو المستقل بأحكام الشرع نصًّا واستنباطًا، وأشرنا نصًّا إلى الكتاب والسنة، وبالاستنباط إلى الأقيسة والمعاني" (2).
ونقل السيوطي رحمه اللَّه تعالى عبارة ابن عبد السلام من أئمة المالكية في كتابه "شرح مختصر ابن الحاجب"(646 هـ) في باب القضاء، حيث يقول:"إن رتبة الاجتهاد مقدور على تحصيلها، وهي شرط في الفتوى والقضاء، وهي موجودة إلى الزمان الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام بانقطاع العلم، ولم نصل إليه الآن، وإلا كانت الأمة مجتمعة على الخطأ، وذلك باطل". ثم علق السيوطي على ذلك فقال: "فانظر كيف صرح بأن رتبة الاجتهاد غير متعذرة، وأنها باقية إلى زمانه، وبأنه يلزم من فقدها اجتماع الأمة على الباطل، وهو محال"(3).
وهكذا يظهر أن باب الاجتهاد ولم يفلق حقيقة، وإنما كانت الفتوى في بعض العلوم لسد الطريق أمام أصحاب الأهواء، ومن يتتبع تاريخ الفقهاء
(1) الملل والنحل، له (1/ 199، 205).
(2)
المنخول، له ص 462، تحقيق الدكتور محمد حسن هيتو، طغ دار الفكر- دمشق - (1390 هـ 1970 م).
(3)
الرد على من أخلد إلى الأرض ص 24.