الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع مجال الاجتهاد
نخصص هذا المبحث لبيان مجال الاجتهاد، أو محل الاجتهاد، أو نطاق الاجتهاد، وهو الركن الثالث من أركان الاجتهاد السابقة، وهو المجتهد فبه، لبيان ما يسوغ الاجتهاد فيه.
وأشرنا سابقًا إلى أن الأحكام الشرعية كلها تؤخذ من مصدرين أساسيين، وهما: النصوص الشرعية، والاجتهاد.
ولكن وضعَ الفقهاءُ وعلماء الأصول قاعدة أساسية مهمة، وهي: لا اجتهاد في مورد النص، ويتبادر إلى ذهن كثير من الناس أن الاجتهاد مقابل للنص، وأنه لا اجتهاد نهائيًّا في النصوص؟! وهذا غير دقيق نهائيًّا، وغير مقصود للعلماء؛ لأن الاجتهاد يقع بالنصوص قطعًا ويقينًا بالاتفاق، ومن هنا تظهر أهمية هذا المبحث لبيان مجال الاجتهاد أو نطاقه أو محله أو المجتهد فيه.
ونسارع إلى القول: إن مجال الاجتهاد واسع جدًّا جدًّا، ويكاد يغطي معظم الأحكام الشرعية، وأنه لا يخرج عن مجال الاجتهاد إلا أمران فقط، ولذلك نحدد ما يخرج عن الاجتهاد أولًا، ثم نبين ما يتناوله الاجتهاد ثانيًا.
أولًا: ما لا يجوز الاجتهاد فيه:
لا يجوز الاجتهاد، ولا يصح، وإن حصل وقع باطلًا، في أمرين فقط، وهما: النصوص القطعية الثبوت والدلالة، وما وقع عليه الإجماع.
1 - النصوص القطعية في الثبوت والدلالة:
إن النصوص الشرعية تعني ما ثبت في القرآن الكريم والسنة الشريفة، ولكن هذه النصوص بعضها قطعي الثبوت، وهو القرآن الكريم والأحاديث المتواترة، وبعضها ظني الثبوت، وهو الأحاديث المشهورة، وأحاديث الآحاد، وكل من القسمين إما أن يكون قطعي الدلالة، أي: له معنى واحد محدد متبادر إلى الذهن، وليس فيه احتمال آخر أصلًا غير المعنى السابق،
وإما أن يكون ظني الدلالة، أي: يدل على معنى ويحتمل معنى آخر، أو يدل على معنيين فأكثر.
فإذا كان النص الشرعي قطعي الثبوت وقطعي الدلالة فلا مجال فيه للاجتهاد، ولا يصح فيه الاجتهاد، وتنطبق عليه القاعدة السابقة بشكل كامل وصحيح "لا اجتهاد في مورد النص"، أو "لا مساغ للاجتهاد فيما فيه نصّ قطعي".
وهذا ما أراده الغزالي رحمه اللَّه تعالى في تحديد المجتهد فيه، فقال:"هو كلُّ حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي"(1).
وهذه الأحكام التي تثبت بدليل قطعي الثبوت والدلالة تشمل المسائل الأساسية في الدِّين، سواء كانت في مسائل الاعتقاد والتوحيد والإيمان، أو في العبادات، وسائر الأحكام العملية الأخرى، فالحكم فيها واحد قطعًا ويقينًا، حتى لا يكون الخلاف فيها مفضيًا للنزاع والخلاف وتفريق الصف، وانقسام الأمة.
وهذه النصوص الذي تعني معنى واحدًا فقط، لا تقبل التأويل بصرفها عن ذلك المعنى، ولا تقبل النسخ لانتهاء مدته بانقطاع الوحي، كما سبق، ويطلق عليها علماء الأصول: المُحْكَم الذي يتحدد البحث فيه بتفسير معناه، وفهمه، بحسب مقتضى اللغة والشرع لبيان دلالته، أو معرفة علته للقياس عليه، أو استنباط مقاصده للاهتداء بها في حالات أخرى.
ومن أمثلة ذلك وجوب الصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، والحج، وتحريم القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر، وتحديد عقوباتها المقدرة لها بنصوص القرآن والسنَّة المتواترة القولية والفعلية، وكذا الكفارات المقدرة، والأعداد الواردة في الكفارات والحدود، مثل قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4]، فهذان النَّصان لا يحتملان
(1) المستصفى (2/ 354)، ونقل الشوكاني عن الفخر الرازي مثل ذلك، فقال:"المجتهد فيه هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قاطع" إرشاد الفحول ص 252، وانظر: علم أصول الفقه ص 216.