الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع الاجتهاد والتقليد والإفتاء
تمهيد:
إن من المقرر شرعًا أن كل حادثة أو واقعة في الكون أو أمر في الدنيا يتعلق بالإنسان له حكم شرعي عند اللَّه تعالى، عَرَفه من عَرَفه، وجهله من جهله، وأنه يجب على علماء الأمة أن يبيِّنوا ذلك حتمًا لازمًا، وفرضًا مؤكدًا، وهذا أمر غير محدود ولا محصور، ولا ينتهي مع التقدم والتطور.
وإن النصوص الواردة في القرآن والسنة لبيان الأحكام الشرعية محدودة ومحصورة، وإن أحداث الكون التي تتلعق بالإنسان في مختلف الأزمنة والأمكنة، ومع تطور الحياة، وتقدم العلوم، ورقي الأمم والحضارات، غير محدودة ولا محصورة.
وإن المحدود والمحصور لا يحيط بغير المحدود وغير المحصور، وهذا يقتضي حتمًا أن يكون مع القرآن والسنة مصدر شرعي مقرر ومقبول يبين أحكام الحوادث التي لم يرد فيها نص، ويوجب حتمًا أن يوجد في الأمة من تتوفر فيه الأهلية لذلك.
وهذا ما أدركه صحابة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم الذين تربوا في مدرسة النبوّة، وتخرجوا على يدي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وعرفوا مقاصد الشريعة وأهدافها وغاياتها وأسرارها، ولذلك لما عيَّن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُعاذَ بن جَبَل رضي الله عنه على القضاء أراد اختباره، وسأله:"كَيْفَ تقضي إنْ عَرَضَ لك القضاءُ يا معاذُ؟ " فأجابَ: أقضي بكتابِ اللَّه تعالى، قالَ:"فإنْ لم تجِدْ في كتاب اللَّه؟ " قال: فبسنَّةِ رسولِ اللَّه، قال:"فإنْ لم تجدْ في سنهِ رسولِ اللَّه؟ "، قال: أجتهدُ
رأيي، ولا آلُو، أي: لا أُقصِّر، فسرّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من هذا الفهم الدقيق، والجواب الحصيف، والمنهج القويم، وأقره على مبدأ الاجتهاد عند عدم النص في القرآن والسنة، وقال عليه الصلاة والإسلام:"الحمدُ للَّه الذي وَفَّق رسولَ رسولِ اللَّه، لما يُرْضي اللَّهَ ورسولَه"(1)، وأصبح هذا المبدأ مقررًا في الشرع، ومنهجًا للأمة والعلماء، وهو المعروف بالاجتهاد، وهو المصدر الرئيسي الثالث في الشريعة، ومنه يتفرع الإجماع وسائر المصادر.
ولكن ليس كل مسلم مؤهلًا للاجتهاد، وليس كل المسلمين علماءَ وفقهاء لبذل الجهد لمعرفة حكم اللَّه تعالى، ولم يكلفهم الشرع -أصلًا- بذلك، بل قرر المبدأ الإسلامي الخالد، والعام الشامل، وهو وجوب سؤال أهل العلم والاختصاص، وهم المجتهدون والعلماء والفقهاء، فقال تعالى:{فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43، الأنبياء: 7]، وقال تعالى:{فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الفرقان: 59]، ولذلك يسأل المسلمُ العادي، أو الأمي والجاهل، يسأل الفقيه العالم المجتهد عن حكم اللَّه تعالى، ويتبعه فيه ويقلده، وهو ما يعرف بالتقليد الذي يعتبر مقابلًا للاجتهاد.
والسائل عن الحكم الشرعي يسمى مُسْتفتيًا، والمسؤول عن الحكم يُسمّى مفتيًا بأن يخبر عن حكم، ولذلك يلحق الإفتاء بالاجتهاد والتقليد.
وهذه المبادئ والمناهج الثلاثة: الاجتهاد، والتقليد، والإفتاء، يضبطها علم أصول الفقه، ويضع مبادئها، وقواعدها، وأصولها، وأحكامها، ولذلك كانت مباحث الاجتهاد والتقليد والإفتاء من المباحث المهمة الأساسية في علم أصول الفقه، وهذا ما ندرسه في هذا الباب، وذلك في ثلاثة فصول، وهي:
الفصل الأول: الاجتهاد.
الفصل الثاني: التقليد.
(1) هذا الحديث رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي والبيهقي وغيرهم، وقال الشوكاني:"وقد قيل: إنه مما تلقته الأمة بالقبول" وسبق مرارًا، وانظر: الحاوي (20/ 186).
الفصل الثالث: الإفتاء.
ونسأل اللَّه التوفيق، ونستمد منه العون والتأييد، فهو نعم المولى والنصير والمجيب، وعليه الاعتماد والتكلان.