الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للعمل بالاجتهاد الأول.
وهذا الكلام في المثالين إذا لم يكن القاضي قد حكم بصحة النكاح في الحالتين، فإن حكم بهما القاضي، فلا يلزم الزوج مفارقة المرأة؛ لأن حكم الحاكم يرفع الخلاف، ويترك المخالفُ مذهبه ويلتزم بمذهب الحاكم، كما سنبين ذلك في حكم القاضي التالي.
2 - أثر تغير اجتهاد الحاكم:
إذا اجتهد القاضي فيما يصح الاجتهاد فيه مما لم يرد فيه نص أو إجماع، وقضى في واقعة بما اجتهد به، ثم حصلت واقعة مماثلة للأولى، فاجتهد فيها، وتغير اجتهاده، فإنه لا ينقض الحكم السابق، وذلك تطبيقًا دقيقًا للقاعدة السابقة "الاجتهاد لا ينتقض بمثله": لأن النقض يؤدي -كما قلنا- إلى اضطراب القضاء، وعدم استقرار الأحكام، وشلل القضاء بعدم إنهاء المنازعات، وبالتالي عدم الوثوق بحكم الحاكم، وبقيت الخصومات على حالها، واستمر التشاجر والتنازع وانتشار الفساد والعدوان والظلم، وهذا يتنافى مع المصلحة التي وجد القضاء لأجلها، والحكمة التي نُضب لها الحكام.
والأمثلة في تاريخ القضاء الإسلامي كثيرة منذ عهد الصحابة، كتغير اجتهاد عمر رضي الله عنه في المسألة المشتركة الحجرية في الميراث، وقرر القاعدة المشهودة "تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي"(1)، ويؤيد ذلك ما جاء في كتاب عمر رضي الله عنه لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وفيه:"لا يمنعنك قضاء قضيته اليوم، فراجعت فيه نفسك، أن تراجع الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل"(2).
(1) انظر: تاريخ القضاء في الاسلام ص 118 - 120، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ص 482 - 485.
(2)
هذا الكتاب رواه الدارقطني (4/ 206، 208، 212) وورد في معظم كتب الفقه وغيرها، وتلقاه العلماء بالقبول، انظر: أعلام الموقعين (1/ 91)، الأحكام السلطانية للماوردي ص 71، المبسوط للسرخسي (16/ 60)، أخبار عمر ص 184، مقدمة ابن خلدون ص 221، أخبار القضاة لوكيع (1/ 70، 283)، روضة القضاة (4/ 1478)، تبصرة الحكام =
والأصل في هذه القاعدة إجماع الصحابة رضي الله عنهم، كما نقله ابن الصباغ رحمه اللَّه تعالى، وأن أبا بكر رضي الله عنه قضى في مسائل، ثم خالفه فيها عمر رضي الله عنه، ولم ينقض اجتهاده، وعلته أن الاجتهاد الثاني ليس بأقوى من الأول، فيصح ما فعله بالاجتهاد الأول الذي تقوى بالقضاء والعمل، ثم يغير الحكم في المستقبل (1).
وكذلك لا ينقض اجتهاد مجتهد باجتهاد مجتهد آخر، بل كل مجتهد عليه أن يحترم اجتهاد الآخر لعدم المرجح.
وكذلك الأمر لو كان بين قاضيين، بأن قضى شافعي مثلًا بعدم الشفعة للجار، أو بطلان الزواج بغير ولي، ثم رفعت نفس القضية لقاض حنفي مثلًا يرى الشفعة للجار، أو صحة النكاح بغير ولي، فلا يجوز أن ينقض قضاء الأول، ويجب عليه تنفيذه، ويحكم في القضايا الأخرى بما يراه.
وهذا مبدأ قانوني مقرر في محاكم النقض والتمييز إذا تغير اجتهادها، فإنه لا يسرى ذلك على الأحكام السابقة، ويسمى في اصطلاحهم "بعدم رجعية القوانين والقرارات"(2).
= (1/ 21)، البيان والتبيين (2/ 49)، صبح الأعشى (1/ 193)، نهاية الأرب (6/ 257).
(1)
انظر تفصيل ذلك في: (أعلام الموقعين 1/ 111)، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي ص 192، القواعد الفقهية في المذهب الحنفي والشافعي ص 351 وما بعدها، 443، فقه القضاء والدعوى والإثبات ص 65، 345، 347 وما بعدها، التنظيم القضائي في الفقه الإسلامي ص 71، 482 وما بعدها.
(2)
البحر المحيط (6/ 266، 304)، شرح الكوكب المنير (4/ 505، 509، 511)، المستصفى (2/ 382)، المحصول (3/ 91)، الإحكام للآمدي (4/ 203)، البرهان (2/ 1328)، فواتح الرحموت (2/ 395)، شرح تنقيح الفصول ص 441، مختصر ابن الحاجب والعضد عليه (2/ 200)، تيسير التحرير (2/ 234)، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 164، روضة القضاة (1/ 150)، المدخل إلى مذهب أحمد ص 190، إرشاد الفحول ص 263، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 1114)، الفروق للقرافي (2/ 104)، علم أصول الفقه، خلاف ص 221.