الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدليل الناسخ فقط، هل هو سنة ثانية، أم بالقرآن نفسه.
رابعًا: نسخ القرآن بالسُّنة:
القرآن الكريم متواتر، وثابت قطعًا، والسنة منها المتواتر وهو ثابت قطعًا، ومنها المشهور عند الحنفية وهو الذي كان آحادًا من الصحابة، ثم صار متواترًا بعدهم، وخبر الآحاد الذي رواه في مختلف طبقاته عدد لم يبلغ عدد التواتر، وهو ظني الثبوت.
وسبقت الإشارة إلى الاختلاف في اشتراط قوة الدليل الناسخ بالسنة للمنسوخ، ومن ذلك نسخ القرآن بالسنة، وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين (1):
القول الأول: يجوز نسخ آية من القرآن بالسنة عقلًا، ووقع ذلك شرعًا، وهو رأي جمهور العلماء، وهم الحنفية والمالكية وبعض الحنابلة، والظاهرية، لاستفاضتها، ولكن الحنفية أجازوا نسخ القرآن بالسنة المتواترة أو المشهورة بين الناس، والمالكية وبعض الحنابلة حصروا ذلك بالمتواتر، وذهب ابن حزم الظاهري إلى جواز نسخ القرآن بالمتواتر وخبر الآحاد؛ لأن خبر الآحاد عنده قطعي كالمتواتر، واستدل أصحاب هذا القول بأمثلة واقعية، منها:
1 -
إن حديث "لا وصية لوارث"(2)، نسخ آية الوصية للوالدين والأقربين في قوله تعالى:{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180].
ويرد هذا الاستدلال بأن الناسخ لوجوب الوصية هو آية المواريث، وهو
(1) هناك أقوال أخرى لبعض العلماء، فذهب جماعة إلى أن ذلك جائز في العقل، ثع ورد الشرع بمنعه في قوله تعالى:{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]، والسنة ليست خيرًا من القرآن ولا مثله، وقال جماعة: يجوز نسخ القرآن بالسنة عقلًا، ولكنه لم يرد في الشرع، فلا يوجد آي في القرآن منسوخة بالسنة، انظر البحر المحيط (4/ 111)، شرح الكوكب المنير (3/ 562)، والمراجع المشار إليها في الهامش، الفصول في الأصول (2/ 345).
(2)
هذا الحديث سبق بيانه، وانظر: نيل الأوطار (6/ 45).
ما صرّح به الصحابي ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال: "إنَّ الذي نسخ آية الوصية آيةُ المواريث"(1)، وقال بعض العلماء: لا نسخ في الآية؛ لأنه يمكن الجمع بين آية الوصية والحديث، أو بين آية الو صية وآيات المواريث بحمل الوصية على غير الوارث، وكون آيات المواريث للوالدين والأقربين الوارثين.
2 -
إن الأحاديث الثابتة برجم الزاني المحصن نسخت جلد الزاني المحصن الثابت بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
ويرد على ذلك أن آية الرجم "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة" هي الناسخة لآية الجلد، أو أن أحاديث الرجم هي مخصصة للآية، وليست من قبيل النسخ.
3 -
قال تعالى: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، فهذه الآية حرمت ثلاثة أمور، وأفادت إباحة أكل ما عداها، فَنُسِخ بعض هذا بالأحاديث التي "نهى فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي نابٍ من السّباع، وكل ذي مِخْلَبٍ من الطير"(2)، فهذا نسخ للقرآن بالسنة (3).
ويرد على ذلك أن هذا تخصيص للآية، وليس نسخًا لها.
القول الثاني: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، وهو رأي الشافعي وأكثر أصحابه، والمشهور عن الإمام أحمد رحمه اللَّه تعالى (4)، سواء كانت السنة متواترة أو
(1) الدارمي (كتاب الوصايا باب 82) وأبو داود 2/ 103 (كتاب الوصايا، باب 5).
(2)
هذا الحديث رواه مسلم (13/ 83) وأبو داود (2/ 319) عن ابن عباس، ورواه البخاري (5/ 52) عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنهم.
(3)
كشف الأسرار (3/ 175)، فواتح الرحموت (2/ 78)، أصول السرخسي (2/ 67)، المعتمد (1/ 324)، الإحكام لابن حزم (477/ 4)، البحر المحيط (4/ 111)، الفصول في الأصول (2/ 345)، إرشاد الفحول ص 191، البحر المحيط (4/ 115).
(4)
قال ابن مفلح رحمه اللَّه تعالى: "ظاهر كلام أحمد منعه" وقال ابن النجار: "وأما الجواز شرعًا فالمشهور عن أحمد رحمه الله منعه" شرح الكوكب المنير (3/ 562)، وانظر: المسودة ص 202، روضة الناظر ص 84، العدة (2/ 788)، إرشاد الفحول ص 191.
مشهورة، أو خبر آحاد.
قال الإمام الشافعي رحمه اللَّه تعالى: "لا يَنْسخ كتابَ اللَّه إلا كتابهُ
…
فهو المزيل المثبت لما شاء منه، جل ثناؤه، ولا يكون ذلك لأحد من خلقه" ثم قال:"وهكذا سنة رسول اللَّه: لا ينسخها إلا سنة لرسول اللَّه"(1).
واستدلوا على ذلك بأدلة كثيرة، أهمها:
1 -
قال اللَّه تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)} [البقرة: 106]، قال الشافعي رحمه اللَّه تعالى:"فأخبر اللَّه أن نسخ القرآن وتأخير إنزاله لا يكون إلا بقرآن مثله"(2)؛ لأن السنة ليست بخير من القرآن، ولا مثله، فلا تكون ناسخة له، ودلت آخر الآية أن اختصاص التبديل محصور بمن له القدرة الكاملة، وهو اللَّه تعالى، فكان النسخ بكلامه وهو القرآن، لا السنة.
واعترض على ذلك أن السنة من عند اللَّه تعالى كالقرآن؛ لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إلا وَحْيٌ يُوحَى} ، [النجم: 3 - 4]. لكن القرآن معجز ومتعبد بتلاوته وهو كلام اللَّه تعالى، وليست السنة كذلك، وأن المراد بالخيرية والمثلية هو في الحكم بحسب مصلحة الناس، لا باللفظ، وقد يكون الناسخ في السنة أنفع للمكلف بكثرة الثواب وغيره.
2 -
قال اللَّه تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]، فصرح القرآن أن اللَّه يبدل آية بآية، فلا تكون السنة ناسخة لآية.
3 -
قال اللَّه تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إلا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [يونس: 15]، فالسنة لا تكون بديلًا عن القرآن، والتبديل لا يكون من عند النبي صلى الله عليه وسلم.
(1) الرسالة ص 106، وانظر: الإحكام للآمدي (3/ 153)، المحصول (3/ 519)، نهاية السول (2/ 181)، المستصفى (1/ 124)، الحاوي (20/ 132).
(2)
الرسالة ص 106.
4 -
قال اللَّه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فالسنة مبيّنة للقرآن، لا ناسخة له، ووظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم البيان فقط للقرآن، فلا يصح نسخ القرآن بالسنة.
وردّ على الاستدلال بالآيات الثلاث أن ما يأتي به رسول اللَّه هو من عند اللَّه، وأن التبديل من اللَّه، ويبينه الرسول، وأن النسخ نوع من البيان؛ لأنه بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه، والسنة مبيّنة للقرآن، فلا مانع من كونها ناسخة له، وأن التبديل يكون للرسم والتلاوة، والمراد هنا نسخ الحكم الذي ورد في الآية بحكم ورد في السنة (1).
وأرى أن الخلاف لفظي واصطلاحي، ولم يترتب عليه اختلاف في الأحكام، وأن ما يسميه الشافعي رحمه اللَّه تعالى نسخًا يسميه الحنفية وغيرهم تخصيصًا، وأن الشافعي يرى أن اللَّه ينسخ بآية أخرى، ثم يبين الرسول صلى الله عليه وسلم النسخ والعمل بها.
وقد استغرب بعض العلماء موقف الشافعي في ذلك، وهو المعروف بناصر السنة، أو ناصر الحديث، ثم يمنع نسخ القرآن بالسنة، ويخالف الجمهور في ذلك؟ (2).
والمتأمل في آراء الشافعي رحمه الله يدرك أنه لا ينتقص السنة، ولا يشكك بذرة فيها، ولكنه يعتقد أن القرآن كلام اللَّه تعالى لا يشبهه شيء، ولا يصل إلى مكانته كلام البشر، ولو كان صادرًا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ويعتقد أن
(1) الرسالة ص 106، الإحكام للآمدي (3/ 153)، المستصفى (1/ 124)، المحصول (3/ 519)، نهاية السول (2/ 181)، الحاوي (20/ 132)، شرح الكوكب المنير (3/ 562)، المسودة ص 202، روضة الناظر ص 84، العدة (2/ 288)، كشف الأسرار (3/ 175)، فواتح الرحموت (2/ 78)، أصول السرخسي (2/ 67)، المعتمد (1/ 324)، البحر المحيط (4/ 111)، الإحكام لابن حزم (4/ 477)، أصول الفقه الإسلامي، الزحيلي (2/ 971)، أصول الأحكام ص 358، إرشاد الفحول ص 191.
(2)
انظر أقوال الكيا الهراسي والقاضي عبد الجبار بن أحمد وغيرهما وأقوال العلماء في الرد عليهم في البحر المحيط (4/ 112، 116)، إرشاد الفحول ص 191.