الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
«فَصْلٌ»
في أحكامِ اللِّعَان
اللِّعانُ في اللُّغةِ: مأخوذٌ من اللَّعْنِ، وهو الإبعادُ والطَّردُ، والْتَعَنَ الرَّجلُ إذا لَعَنَ نَفْسَه، ولاعَنَ إذا لاعَنَ زَوْجَتَه، وسُمِّيَ هذا الحُكمُ لِعانًا؛ لأنَّه لا يَنْفَكُّ عندَ العملِ به من طردٍ وإبعادٍ؛ لأنَّ أحدَهما كاذبٌ، وإن لم يَتَعَيَّنْ منهما، والكاذبُ يَستحقُّ البُعدَ من اللهِ تعالى.
وفي الاصطلاحِ: كلماتٌ معلومةٌ جُعِلَتْ حُجَّةً للمُضْطَرِّ إلى قذفِ مَن لَطَّخَ فِراشَه وألحقَ العارَ به أو إلى نفيِ ولدٍ.
والأصلُ في مشروعيَّتِه قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6 - 9]
(1)
.
وسببُ نزولِ الآياتِ -كما قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ هلالَ بنَ أميَّةَ قَذَفَ امرأتَه عندَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بشريكِ ابنِ سَحماءَ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» ، فقالَ: يا رسولَ اللهِ، إذا رأى أحدُنا على امرأتِه رَجلًا ينطلقُ يلتمسُ البيِّنةَ، فجَعَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:
(1)
قولُه تعالى: {يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ؛ أيْ: يتَّهموهنَّ بالزِّنا، وقولُه تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} ؛ أيْ: يَدْفَعُ عنها حَدَّ الزِّنا، وهو الرَّجمُ، كما سيأتي إن شاءَ اللهُ تعالى.
«الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» ، فقال هلالٌ: والذي بَعَثَكَ بالحقِّ إنِّي لصادقٌ، فَلَيُنْزِلَنَّ اللهُ ما يُبَرِّئُ ظهري من الحَدِّ، فنَزَلَ جبريلُ، وأَنْزَلَ عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ
…
}؛ فقرأَ حتَّى بَلَغَ: {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ، فانصرفَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم فأَرْسَلَ إليها، فجاءَ هلالٌ فَشَهِدَ، والنَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ:«إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ، فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ؟» ، ثمَّ قامتْ فَشَهِدَتْ، فلمَّا كانتْ عندَ الخامسةِ وقَفوها، وقالوا: إنَّها موجِبةٌ، قال ابنُ عبَّاسٍ: فتلكَّأتْ ونَكَصَتْ؛ حتَّى ظننَّا أنَّها تَرْجِعُ، ثمَّ قالت: لا أَفْضَحُ قومي سائرَ اليومِ، فمضتْ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«أَبْصِرُوهَا، فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ العَيْنَيْنِ، سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهُوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ» ، فجاءت به كذلك، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«لَوْلَا مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ»
(1)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَإِذَا رَمَى الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا فَعَلَيْهِ
(1)
رواه البخاري (4470)، وقولُهم:«موجِبةٌ» ؛ أي: للعذابِ الأليمِ عندَ اللهِ تعالى إن كنتِ كاذبةً، وقولُه:«فَتَلَكَّأَتْ» ؛ أيْ: تَوَقَّفَتْ وتَبَاطأتْ عن الشَّهادةِ، و «نَكَصَتْ»؛ أي: أَحْجَمَتْ عن استمرارِها في اللِّعانِ .. وقولُها: «لا أَفْضَحُ قومي سائرَ اليومِ» ؛ أيْ: لا أَكونُ سببَ فضيحتِهم فيما بقيَ من الأيَّامِ، يقالُ لهم: منكم امرأةٌ زانيةٌ، وقولُه:«فمضت» ؛ أي: في إتمامِ اللِّعانِ، وقولُه صلى الله عليه وسلم:«أَبْصِرُوهَا» ؛ أي: انظُروا إليها وراقِبوها عندما تضعُ حَمْلَها، و «أَكْحَلَ»؛ أيْ: شديدُ سوادِ الجفونِ خِلقةً من غيرِ اكتحالٍ، و «سَابِغَ الْأَلْيَتَيْنِ»؛ أيْ: ضَخْمُهُما، و «خَدَلَّجَ»؛ أي: ممتلئٌ، و «مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللهِ»؛ أي: ما قُضِيَ فيه من أنَّه لا يُحَدُّ أحدٌ بدونِ بيِّنةٍ أو إقرارٍ، وأنَّ اللِّعانَ يَدْفَعُ عنها الرَّجمَ، و «لِي وَلَهَا شَأْنٌ»؛ أيْ: كانَ لي معها موقفٌ آخَرُ؛ أي: لرجمتُها ولفعلتُ بها ما يَكونُ عِبرةً لغيرِها، وجاء في روايةٍ لمسلمٍ (1496):«فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَبْيَضَ سَبِطًا قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ» ، و «سَبِطًا»؛ أيْ: مسترسِلَ الشَّعرِ، و «قَضِيءَ الْعَيْنَيْنِ»؛ أي: فاسدَهما بكثرةِ دمعٍ أو حُمرةٍ.
حَدُّ الْقَذْفِ؛ إِلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ، أَوْ يُلَاعِنَ، فَيَقُولَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي الْجَامِعِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ النَّاسِ: أَشْهَدُ بِاللهِ إِنَّنِي لَمِنَ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي فُلَانَةً مِنَ الزِّنَا، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنَ الزِّنَا، وَلَيْسَ مِنِّي؛ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَيَقُولَ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ -بَعْدَ أَنْ يَعِظَهُ الْحَاكِمُ-: وَعَلَيَّ لَعْنَةُ اللهِ إِنْ كُنْتُ مِنَ الْكَاذِبِينَ»، إذا قَذَفَ الرَّجُلُ زوجتَه بالزِّنا فعليه حدُّ القذفِ، وسيأتي أنَّه ثمانونَ جلدةً؛ إلَّا أن يُقِيمَ الرَّجلُ القاذفُ البيِّنةَ بزنَا المقذوفةِ، أو يُلاعِنَ زوجتَه المقذوفةَ بأمرِ الحاكمِ أو نائبِه؛ فيقولَ في الجامعِ على المنبرِ في جماعةٍ من النَّاسِ: أَشْهَدُ باللهِ إنَّني لمن الصَّادقينَ فيما رميتُ به زوجتي فلانةً من الزِّنا، وإن كانَ هناك ولدٌ ينفيه فيقولُ: وأنَّ هذا الولدَ من الزِّنا، وليس منِّي، يقولُ الملاعنُ هذه الكلماتِ أربعَ مرَّاتٍ، ويقولُ في المرَّةِ الخامسةِ -بعدَ أن يعِظَه الحاكمُ أو نائبُه بتخويفِه له من عذابِ اللهِ تعالى في الآخرةِ وأنَّه أشدُّ من عذابِ الدُّنيا-: وعليَّ لعنةُ اللهِ إن كنتُ من الكاذبينَ فيما رميتُ به زوجتي فلانةً من الزِّنا، ويقولُ هذا الكلامَ على المنبرِ في جماعةٍ؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ جعفرٍ رضي الله عنهما قالَ: «حضرتُ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم حين لاعَنَ بينَ عويمرٍ العَجلانيِّ وامرأتِه
…
بعدَ العصرِ عندَ المنبرِ»
(1)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيَتَعَلَّقُ بِلِعَانِهِ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ:
1 -
سُقُوطُ الْحَدِّ عَنْهُ»؛ أيْ: سقوطُ حدِّ القذفِ عنه.
2 -
«وَوُجُوبُ الْحَدِّ عَلَيْهَا» ؛ أيْ: حدِّ الزِّنا على زوجتِه إنْ
(1)
رواه الدارقطني (3709).
لم تلاعِنْ؛ لقولِه تعالى: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 8 - 9]، ففيهِ دلالةٌ على وجوبِ الحدِّ عليها بلِعانِه وعلى سقوطِه عنها بلِعانِها.
3 -
«وَزَوَالُ الْفِرَاشِ» ؛ أيْ: فِراشِ الزَّوجِ عنها؛ لانقطاعِ النِّكاحِ بيْنَهما.
4 -
«وَنَفْيُ الْوَلَدِ» ؛ أيْ: نفيُ انتسابِ الولدِ إليه إن نفاه في لِعانِه؛ لحديثِ ابنِ عمرَ رضي الله عنهما: «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لاعَنَ بيْنَ رَجلٍ وامرأتِه، فانتفى من ولدِها، ففرَّقَ بَيْنَهما، وأَلْحَقَ الولدَ بالمرأةِ»
(1)
.
5 -
«وَالتَّحْرِيمُ عَلَى الْأَبَدِ» ؛ أيْ: تحريمُ الزَّوجةِ عليه على الأبدِ؛ لحديثِ سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه قالَ: «مَضَتِ السُّنَّةُ في المتلاعِنَيْنِ أن يُفَرَّقَ بَيْنَهما، ثمَّ لا يَجْتَمِعانِ أبدًا»
(2)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهَا بِأَنْ تَلْتَعِنَ، فَتَقُولَ: أَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا هَذَا لَمِنَ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنَ الزِّنَا؛ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَتَقُولُ فِي الْمَرَّةِ الْخَامِسَةِ -بَعْدَ أَنْ يَعِظَهَا الْحَاكِمُ-: وَعَلَيَّ غَضَبُ اللهِ إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ» ، يَسْقُطُ حدُّ الزِّنا عن الزَّوجةِ الذي وَجَبَ عليها بتمامِ لِعانِ الزَّوجِ؛ بأن تلاعِنَ بعدَ تمامِ لِعانِه؛ لقولِه تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}
(1)
رواه البخاري (5009)، ومسلم (1494).
(2)
رواه أبو داود (2250).