الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا لَزِمَهُ الدَّمُ» ؛ لقولِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أو تَرَكَهُ، فَلْيُهْرِقْ دَمًا»
(1)
.
والمرادُ بالنُّسُكِ هنا الواجبُ، وأقلُّه شاةٌ تُجزِئُ في الأُضْحيةِ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَمَنْ تَرَكَ سُنَّةً لَمْ يَلْزَمْهُ بِتَرْكِهَا شَيْءٌ» ، كالسُّننِ في غيرِ الحجِّ والعمرةِ، مَن ترَكَها لم يلزمْه شيءٌ.
«فَصْلٌ»
في الدِّماءِ الواجبةِ في الإحرام
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَالدِّمَاءُ الْوَاجِبَةُ فِي الْإِحْرَامِ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: الدَّمُ الْوَاجِبُ بِتَرْكِ نُسُكٍ، وَهُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ: شَاةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ، ثَلَاثَةٌ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ»؛ لقولِه تعالى:{فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]؛ أي: اعتمر أوَّلًا، ثمَّ أحرمَ بالحجِّ من مكَّةَ ولم يخرجْ إلى الميقاتِ، والإحرامُ من الميقاتِ واجبٌ كما سبقَ، فوجبَ بتركِه دمٌ على ما ذُكِرَ، وقِيسَ به غيرُه.
«وَالثَّاني: الدَّمُ الْوَاجِبُ بِالْحَلْقِ وَالتَّرَفُّهِ، وَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ: شَاةٌ، أَوْ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، أَوْ التَّصَدُّقُ بِثَلَاثَةِ آصُعٍ عَلَى سِتَّةِ
(1)
رواه مالك في «الموطأ» (1257).
مَسَاكِينَ»؛ لحديثِ كعبِ بنِ عُجْرةَ رضي الله عنه قال: أتَى عليَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زمَنَ الحُدَيْبِيَةِ، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم:«أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟» ، قلت: نعم، قال:«فَاحْلِقْ رَأْسَكَ» ، ففيَّ نَزَلَتْ هذه الآيةُ خَاصَّةً، وَهِيَ لَكُمْ عَامَّةٌ:{فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]، قَالَ صلى الله عليه وسلم:«صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ؛ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، أَوْ انْسُكْ بِشَاةٍ»
(1)
.
وقِيسَ بحلقِ الشَّعرِ ما في معناه من بقيَّةِ الاستمتاعاتِ المحرَّمةِ، كالطِّيبِ والأدْهانِ واللِّباسِ وقصِّ الأظفارِ ومقدماتِ الجماعِ على الأصحِّ لاشتراكِ الكلِّ في التَّرَفُّه.
«وَالثَّالث: الدَّمُ الْوَاجِبُ بِالْإِحْصَارِ، فَيَتَحَلَّلُ، وَيُهْدِي شَاةً» ؛ لقولِه تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
و {أُحْصِرْتُمْ} ؛ أي: مُنِعْتُم من المُضِيِّ لأداءِ الحجِّ أو العمرةِ.
وحُصِرَ؛ أي: أُحِيطَ به ومُنع مِن بلوغِ قصدِه، وقد تحلَّلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالحديبيةِ لما صدَّه المشرِكونَ عن البيتِ الحرامِ، وكان مُحرِمًا بِعُمْرةٍ.
يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضي الله عنهما: «خَرَجْنَا مَعْ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَمِرِينَ فَحَالُ كَفَّارُ قُرَيْشٍ دَوْنَ البَيْتِ، فنَحَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بُدْنَه
(1)
رواه البخاري (1719)، ومسلم (1201).
وحلَقَ رأسَه»
(1)
.
ولا بدَّ مِن تقديمِ الذَّبحِ على الحَلْقِ؛ لقولِه تعالى في الآيةِ السابقةِ: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196].
«وَالرَّابِعُ: الدَّمُ الْوَاجِبُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ، وَهُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ: إِنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ أَخْرَجَ الْمِثْلَ مِنَ النَّعَمِ، أَوْ قَوَّمَهُ وَاشْتَرَى بِقِيمَتِهِ طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ، أَوْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، وَإِنْ كَانَ الصَّيْدُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ أَخْرَجَ بِقِيمَتِهِ طَعَامًا، أَوْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا» ، يقولُ اللهُ تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95].
وقولُه تعالى: {حرم} ؛ أي: مُحرِمون بحجٍّ أو عُمرةٍ، وقولُه:{متعمدا} ؛ أي: ذاكرًا لإحرامِه قاصدًا لقتلِ الصَّيدِ؛ وقولُه: {فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} ؛ أي: شبهُه في الخلقةِ، أو ما يقاربُه في الصُّورةِ لا في الجنسِ، فمثلًا في صيدِ النعامةِ بدَنةٌ، وفي بقرِ الوحشِ وحمارِه بقرةٌ، وفي الغزالِ عنزٌ، وهكذا، وقولُه:{يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} ؛ أي: يقدره ويبين ما هو الواجبُ، وقوله:{هَدْيًا} ، هو: ما يساقُ من المواشِي ليُذبحَ في الحرمِ؛ وقولُه:
(1)
رواه البخاري (1717)، و «بدنه»: جمع بدنة، وهي ما يُساقُ إلى الحَرمِ من الإبلِ.
{بالغ الكعبة} ؛ أي: يُذْبَحُ في الحرمِ، ويُتَصَدَّقُ باللَّحمِ أو الطَّعامِ على مساكينِ الحرمِ: مقيمينَ أو طارئِينَ؛ وقولُه: {أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} ؛ أي: صيامَ أيامٍ تعادلُ بعددِها قيمةَ الهدْيِ، أو الطعامِ كما ذُكِرَ في المتنِ.
ويُستثْنى صيدُ البحرِ، فلا يَحْرمُ على المحرمِ صيدُه.
«وَالْخَامِسُ: الدَّمُ الْوَاجِبُ بِالْوَطْءِ، وَهُوَ عَلَى التَّرْتِيبِ: بَدَنَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَبَقَرَةٌ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَسَبْعٌ مِنَ الْغَنَمِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا؛ قَوَّمَ الْبَدَنَةَ وَاشْتَرَى بِقِيمَتِهَا طَعَامًا وَتَصَدَّقَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا» ، سُئِلَ ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما عن رجلٍ وقعَ بأهلِه وهو بمنًى، قبلَ أنْ يُفِيضَ، فأمرَه أنْ ينْحرَ بدنةً
(1)
.
والرُّجوعُ إلى البقرةِ، والسَّبعِ من الغَنَمِ؛ لأنَّهما في الْأُضْحِيَّةِ كالبَدَنَةِ، والرُّجوعُ إلى الإطعامِ، ثمَّ الصِّيامِ؛ لأنَّ الشرعَ عَدَلَ في جزاءِ الصَّيدِ من الحيوانِ إليهما على التَّخييرِ، فَرُجِعَ إليهما هنا عندَ العُذرِ على التَّرتيبِ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَلَا يُجْزِئُهُ الْهَدْيُ وَلَا الْإِطْعَامُ إِلَّا بِالْحَرَمِ، وَيُجْزِئُهُ أَنْ يَصُومَ حَيْثُ شَاءَ» ؛ لقولِه تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، فيجبُ صرفُ اللَّحمِ والطَّعامِ إلى مساكينِ الحرَمِ، مقيمينَ أو طارئينَ؛ كما سبقَ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ صَيْدِ الْحَرَمِ، وَلَا
(1)
رواه مالك في «الموطأ» (1136)، وقوله:«يُفِيضَ» ؛ أي: يطوفُ طوافَ الإفاضةِ.
قَطْعُ شَجَرِهِ، وَالْمُحِلُّ وَالْمُحْرِمُ فِي ذَلَكَ سَواءٌ»؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال:«حَرَّمَ اللهُ مَكَّةَ فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي، أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ» ، فقال العبَّاسُ رضي الله عنه: إِلَّا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فقال:«إِلَّا الإِذْخِرَ»
(1)
.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: «لَا يُعْضَدُ شَجَرُهَا» ؛ أي: لا يُقطعُ، «وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا»؛ أي: لا يُزعجُ من مكانِه، ولا يحلُّ صيدُه، «وَلَا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إِلَّا لِمُعَرِّفٍ»؛ أي: لا تُؤخذُ، إلا لمَن أرادَ أنْ يُعِرِّفَها ويَنادِيَ عليها حتى يجيءَ صاحبُها ليأخذَها.
وقولُه: «إِلَّا الْإِذْخِرَ» ؛ أي: باستثناءِ الإذخرِ، وهو نباتٌ عشبيٌّ من فصيلةِ النجيلياتِ، ينبتُ في السُّهولِ وفي المواضعِ الجافَّةِ الحارَّةِ، ويُقالُ له: حلفاءُ مكةَ، له رائحةٌ ليمونيَّةٌ عطِرَة، أزهارُه تُستَعملُ منقوعًةً كالشَّايِ، ويُقالُ له -أيضًا-: طيبُ العربِ.
وقولُه: «لِصَاغَتِنَا» ، جمعُ صائغٍ، فيستعملونَه لحاجتِهم في الصِّياغةِ، وجاء في روايةٍ:«لِقَيْنِهِمْ وَلِبُيُوتِهِمْ» ؛ أي: لحَدَّادِهِمْ؛ لأنَّه يَحتاجُ إليه في إيقادِ النَّارِ، وكذلك يُحتاجُ إليه في سقوفِ البيوتِ فيجعلُ فوقَ الخشبِ، وكذلك يُحتاجُ إليه في القبورِ لتُسدَّ به فُرجُ اللَّحدِ المتخللةُ بينَ اللبناتِ.
والله تعالى أعلم.
(1)
رواه البخاري (1284)، ومسلم (1353).