المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌«فصل»في أحكام الجزية - إتحاف الأريب بشرح الغاية والتقريب

[أبو المعاطي الشبراوي]

فهرس الكتاب

- ‌تَرْجَمَةُ أبِي شُجَاعٍ الأصْبَهَانِيُّ رحمه الله

- ‌اسْمُه ونَسَبُه:

- ‌من مؤلَّفاتِه:

- ‌مُقَدِّمِةُ صَاحِبِ الْمَتْن

- ‌كتابُ الطَّهارة

- ‌«فَصْلٌ»في أنواع المِياهِ وأقسامِها

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ المَيتةِ وبيانِ ما يَطْهُرُ بالدِّباغ

- ‌«فَصْلٌ»في استعمالِ الأواني

- ‌«فَصْلٌ»في فروضِ الوُضوءِ وسُنَنِه

- ‌«فَصْلٌ»في الاستنجاء

- ‌«فَصْلٌ»في نواقِضِ الوُضوء

- ‌«فَصْلٌ»في موجِباتِ الغُسْل

- ‌«فَصْلٌ»في فرائِضِ الغُسْلِ وسُنَنِه

- ‌«فَصْلٌ»في الاغتسالاتِ المَسْنُونَة

- ‌«فَصْلٌ»في المَسْحِ على الخُفَّيْن

- ‌«فَصْلٌ»في التَّيمُّم

- ‌«فَصْلٌ»في بيانِ النَّجاساتِ وإزالتِهَا

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الحيضِ والنِّفاسِ والاستحاضة

- ‌«فَصْلٌ»في ما يَحْرُمُ على الجُنُبِ والمُحْدِثِ فِعْلُه

- ‌كِتابُ الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في مَواقيتِ الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في شروطِ وجوبِ الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في الصَّلواتِ المَسْنُونَات

- ‌«فَصْلٌ»في شروطِ الصَّلاةِ قبلَ الدُّخولِ فيها

- ‌«فَصْلٌ»في أركانِ الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في سُننِ الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في هيئاتِ الصَّلاةِ

- ‌«فَصْلٌ»في ما تُخَالِفُ المرأةُ فيه الرَّجُلَ في الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في مُبطِلاتِ الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في ما تَشْتَمِلُ عليه الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في سجودِ السَّهْو

- ‌«فَصْلٌ»في الأوقاتِ الَّتي تُكْرَهُ فيها الصَّلاة

- ‌«فَصْلٌ»في صلاةِ الجماعة

- ‌«فَصْلٌ»في صلاةِ المسافر

- ‌«فَصْلٌ»في صلاةِ الجُمُعة

- ‌«فَصْلٌ»في صلاةِ العِيدين

- ‌«فَصْلٌ»في صلاةِ الكسوفِ

- ‌«فَصْلٌ»في صلاةِ الاستسقاء

- ‌«فَصْلٌ»في صلاةِ الخوف

- ‌«فَصْلٌ»في اللِّباسِ والزِّينة

- ‌«فَصْلٌ»في صلاةِ الجِنازةِ

- ‌كتابُ الزَّكاة

- ‌«فَصْلٌ»في نِصَابِ الإبِل

- ‌«فَصْلٌ»في نِصَابِ البَقَر

- ‌«فَصْلٌ»في نِصَابِ الغَنَم

- ‌«فَصْلٌ»في زكاةِ الخَلِيطَيْن

- ‌«فَصْلٌ»في زكاةِ الذَّهَبِ والفِضَّة

- ‌«فَصْلٌ»في زكاةِ الزُّرُوعِ والثِّمَار

- ‌«فَصْلٌ»في زكاة عروض التجارة

- ‌«فَصْلٌ»في زكاة المَعْدِن والرِّكاز

- ‌«فَصْلٌ»في زكاةِ الفِطْر

- ‌«فَصْلٌ»في مصارف الزكاة

- ‌كتابُ الصِّيام

- ‌«فَصْلٌ»في مفسداتِ الصوم

- ‌«فَصْلٌ»في الاعتكاف

- ‌كتابُ الحَج

- ‌«فَصْلٌ»في العمرة

- ‌«فَصْلٌ»في محظوراتِ الإحرام

- ‌«فَصْلٌ»في الدِّماءِ الواجبةِ في الإحرام

- ‌كتابُ البُيُوعِ وغيرِها مِنَ المُعامَلات

- ‌«فَصْلٌ»في الرِّبَا

- ‌«فَصْلٌ»في الخِيَار

- ‌«فَصْلٌ»في السَّلَم

- ‌«فَصْلٌ»في الرَّهْن

- ‌«فَصْلٌ»في الحَجْر

- ‌«فَصْلٌ»في الصُّلح

- ‌«فَصْلٌ»في الحَوَالَة

- ‌«فَصْلٌ»في الضَّمَان

- ‌«فَصْلٌ»في الكَفَالَة

- ‌«فَصْلٌ»في الشَّرِكَة

- ‌«فَصْلٌ»في الوَكَالَة

- ‌«فَصْلٌ»في الإقْرَار

- ‌«فَصْلٌ»في العارِيَّة

- ‌«فَصْلٌ»في الغَصْب

- ‌«فَصْلٌ»في الشُّفْعَة

- ‌«فَصْلٌ»في القِرَاض

- ‌«فَصْلٌ»في المُسَاقَاة

- ‌«فَصْلٌ»في الإجَارَة

- ‌«فَصْلٌ»في الجعَالَة

- ‌«فَصْلٌ»في المُزَارَعَة

- ‌«فَصْلٌ»في إحياءِ المَوَات

- ‌«فَصْلٌ»في الوقف

- ‌«فَصْلٌ»في الهِبَة

- ‌«فَصْلٌ»في اللقطة

- ‌«فَصْلٌ»في اللَّقِيط

- ‌«فَصْلٌ»في الوَدِيعَة

- ‌كتابُ الفَرَائِضِ والوَصَايَا

- ‌«فَصْلٌ»في الحَجْب

- ‌«فَصْلٌ»في أقربِ العَصَباتِ

- ‌«فَصْلٌ»في الفروضِ المذكورةِ في كتابِ اللهِ تعالى

- ‌تَتِمَّةٌ في تأصيلِ المسائلِ وتصحيحِها:

- ‌«فَصْلٌ»في الوَصِيَّة

- ‌كتابُ النِّكاحِ وما يَتعلَّقُ بِهِ مِنَ الأحكامِ والقَضَايَا

- ‌«فَصْلٌ»في ما يُشْتَرَطُ لصحَّةِ عَقدِ النِّكاح

- ‌«فَصْلٌ»فِي المُحَرَّمَاتِ مِن النِّسَاء

- ‌«فَصْلٌ»في تسميةِ المَهر

- ‌«فَصْلٌ»في الوَليمَة

- ‌«فَصْلٌ»في عِشْرَةِ النِّسَاء

- ‌«فَصْلٌ»فِي الخُلْع

- ‌«فَصْلٌ»في الطَّلَاق

- ‌«فَصْلٌ»فِي طلاقِ الحُرِّ والعَبْد

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الرَّجْعَة

- ‌«فَصْلٌ»في الإيلاء

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الظِّهار

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ اللِّعَان

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ العِدَّة

- ‌«فَصْلٌ»في أنواعِ المعتدَّةِ وأحكامِها

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الاسْتِبْرَاء

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الرَّضَاع

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ نفقةِ الأقاربِ

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الحَضَانَةِ

- ‌كتابُ الجِنَايَات

- ‌«فَصْلٌ»في شَرَائِطِ وُجُوبِ القِصَاص

- ‌«فَصْلٌ»في بيانِ أحكامِ الدِّيَة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ القَسَامة

- ‌كتابُ الحُدُود

- ‌«فَصْلٌ»في حَدِّ القَذْفِ

- ‌«فَصْلٌ»في حَدِّ شُرْبِ الخَمْر

- ‌«فَصْلٌ»في حَدِّ السَّرِقَة

- ‌«فَصْلٌ»في حَدِّ الحِرابة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الصِّيَال

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ قتالِ أهلِ البَغْي

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الرِّدَّة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ تاركِ الصَّلاة

- ‌كتابُ الجِهَاد

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الغَنِيمَة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الفَيْء

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الجِزْيَة

- ‌كتابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِح

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الأطعمة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الأُضْحِيَة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ العَقِيقَة

- ‌كتابُ السَّبْقِ والرَّمي

- ‌كتابُ الأَيْمَانِ والنُّذُور

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ النَّذر

- ‌كتابُ الأقْضِيَةِ والشَّهَادَات

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ القِسْمَة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكام البَيِّنَة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الشَّهادات

- ‌«فَصْلٌ»في حقوقِ الله تعالى وحقوقِ الآدمين

- ‌كتابُ العِتْق

- ‌«فَصْلٌ»في أحكامِ الوَلَاء

- ‌«فصل»في أحكام التَّدْبِير

- ‌«فَصْلٌ»في أحكام الكِتَابَة

- ‌«فَصْلٌ»في أحكام أمهات الأولاد

الفصل: ‌«فصل»في أحكام الجزية

خمسةِ أقسامٍ متساويةٍ، فيُصرَفُ أحدُها على مَنْ يُصرفُ عليهم خُمُسُ الغنيمةِ، وقد مرَّ الكلامُ عليهم في الفصلِ السابقِ، وأما الأربعةُ أخماسٍ الباقيةُ، والتي كانَت لرسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، يُنْفِقُ عَلَى أهْلِهِ منها نفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمَّ يَجْعلُ مَا بَقِيَ في السلاحِ وَالْكُرَاعِ عُدَّةً فِي سبيلِ اللهِ؛ فإنَّها بعدَ وفاتِه صلى الله عليه وسلم تُصرفُ للمُقاتِلةِ، وهمُ الجندُ المنقطعونَ لرصدِ العدوِّ وحمايةِ الثُّغورِ، ويكونُ ذلك بتعيينِ الإمامِ لهم، وإثباتِ أسمائِهم في الديوانِ، بعدَ أنْ تجتمعَ فيهم شروطٌ؛ وهي: الإسلامُ، والتَّكليفُ، والحريةُ، والصِّحةُ، وهؤلاءِ الجندُ يُقالُ لهم: مُرتَزِقةٌ؛ لأنَّهم أرصدوا أنفسَهم للذَّبِّ عن الدِّينِ، وطلبوا الرزقَ مِن مالِ اللهِ، فيفرقُ الإمامُ عليهم الأخماسَ الأربعةَ على قدْرِ حاجاتِهم، وكذلك يصرفُ مِن هذه الأربعةِ أخماسٍ على مصالحِ المسلمين منْ إصلاحِ الحصونِ وعلى السِّلاحِ وآلاتِ القتالِ.

«فَصْلٌ»

في أحكامِ الجِزْيَة

الجزيةُ في اللُّغةِ: مشتقةٌ منَ الجزاءِ، بمعنى القضاءِ، يقالُ: جزيتُ دَيني؛ أيْ: قضيتُه، ومنه قولُه تعالى:{وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48]؛ أيْ: لا تَقضي، قالَ النَّوويُّ رحمه الله:«كأنَّها جزاءُ إسكانِنا إياهُ في دارِنا، وعصمتُنا دمَه، ومالَه، وعيالَه»

(1)

.

ص: 426

وفي الاصطلاحِ: مالٌ يلتزمُه كافرٌ مخصوصٌ، بعقدٍ مخصوصٍ.

والمرادُ بـ «كافرٌ مخصوصٌ» ؛ أيْ: مَنْ له كتابٌ أو شُبهةُ كتابٍ، والمرادُ بـ «عقدٍ مخصوصٍ»؛ أيْ: بشروطٍ وضوابطَ، وسيذكرُها المصنِّفُ قريبًا إنْ شاءَ اللهُ تعالى.

ودليلُ مشروعيةِ الجزيةِ قبلَ الإجماعِ قولُه تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].

وفي حديثِ عمرِو بنِ عوفٍ الأنصاريِّرضي الله عنه: «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ أبا عبيدةَ بنَ الجراحِ رضي الله عنه إلى البحرين يأتي بجزيتِها»

(1)

.

قال أبو شجاع رحمه الله: «وَشَرَائِطُ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ خَمْسُ خِصَالٍ:

1، 2 - الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ»، فلا جزيةَ على صبيٍّ ولا مجنونٍ؛ لعدمِ تكليفِهما، وقد سبقَ حديثُ عليٍّ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:«رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»

(2)

.

(1)

رواه البخاري (2988)، ومسلم (2961).

(2)

رواه أبو داود (4401)، وابنُ خزيمة (1003)، وابن حبَّان (143)، والحاكم (949)، وصححَه، وأقرَّه الذهبي.

ص: 427

3 -

«وَالْحُرِّيَّةُ» ، فلا جزيةَ على رقيقٍ؛ لأنَّ العبدَ ومالَه لسيدِه.

4 -

«وَالذُّكُورَةُ» ، فلا جزيةَ على غيرِ الذُّكورِ؛ لحديثِ عمرَ بنِ الخطَّابِرضي الله عنه:«أنَّه كتبَ إلى عمَّالِه أنْ لا يَضْرِبُوا الجزْيةَ على النِّساءِ والصبيانِ»

(1)

.

5 -

«وَأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِمَّنْ لَهُ شُبْهَةُ كِتَابٍ» ، فلا تُقبلُ الجزيةُ إلا ممَّنْ كانَ له كتابٌ، كاليهوديِّ والنصرانيِّ؛ لقولِه تعالى:{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، فاشترطَ سبحانه وتعالى في قَبولِ الجزيةِ أنْ تكونَ ممَّنْ له كتابٌ، وكذلك تقبلُ ممَّنْ له شُبهةُ كتابٍ لحديثِ بَجَالَةَ بنِ عَبْدَةَ التَّميميِّ أنَّ عمرَ رضي الله عنه لم يكَنْ ليأخذَ الجِزْيَةَ مِنَ المجوسِ، حتَّى شهدَ عبدُ الرحمنِ بنُ عوفٍ رضي الله عنه:«أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخذَها مِنْ مجوسِ هَجَرَ»

(2)

.

وقد روُجعَ عليٌّ رضي الله عنه فيهم، فقالَ: «واللهِ ما على الأرضِ اليومَ أحدٌ أعلمُ بذلك منِّي، إنَّ المجوسَ كانوا أهلَ كتابٍ يعرفونه، وعِلمٍ يدرسونه، فشربَ أميرٌ لهم الخمرَ فسكِرَ، فوقعَ على أختِه،

(1)

رواه عبد الرزاق في «المصنف» (19262)، (32640)، والبيهقيّ في «السننِ الكبرى» (18683)، وابنُ عبدِ البرِّ في «التمهيدِ» (2/ 119).

(2)

رواه البخاري (2987).

ص: 428

فرآه نفرٌ منْ أهلِ مملكتِه، فلما أصبحَ قالَتْ أختُه: إنَّك قد صنعْتَ كذا وكذا، وقد رآك نفرٌ لا يسترون عليك، فدعا أهلَ الطمعِ وأعطاهم، ثُمَّ قالَ لهم: قد علمْتُم أنَّ آدمَ أنكحَ بَنِيهِ بناتَه، فجاءَ أولئِكَ الذين رأَوه فقالوا: ويلًا للأبعدِ، إنَّ في ظهرِك حدًّا للهِ، فقتلَهم أولئِك الذين كانوا عندَه، ثُمَّ جاءَتِ امرأةٌ، فقالَتْ له: بلْ قد رأيتُك، فقالَ لها: ويحًا لبغيِّ بَنيْ فُلانٍ، قالَتْ: أجلْ، واللهِ لقد كنْتُ بغيًّا ثُمَّ تبْتُ، فقتلَها، ثُمَّ أُسرِيَ على ما في قلوبِهم، وعلى كتبِهم فلم يصبحْ عندَهم شيءٌ»

(1)

.

أما مَنْ لم يكنْ له كتابٌ، ولا شبهةُ كتابٍ، كعَبَدةِ الأصنامِ، والنيرانِ، والشمسِ، والقمرِ، والكواكبِ، ونحوِهم فلا تُعقدُ لهم الذِّمَّةُ، ولا تُقبلُ منهم الجزيةُ، بل يُقاتَلون حتَّى يُسلِموا، أو يُقتَلوا، قالَ تعالى:{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 5].

قال أبو شجاع رحمه الله: «وَأَقَلُّ الْجِزْيَةِ دِينَارٌ فِي كُلِّ حَوْلٍ، وَيُؤْخَذُ مِنَ الْمُتَوَسِّطِ دِينَارَانِ، وَمِنَ الْمُوسِرِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ» ؛ لحديثِ محمَّدِ بنِ عبدِ اللهِ الثقفيِّ رحمه الله: «وضعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه

(1)

رواه الشافعي في «الأم» (4/ 183)، وعبدُ الرزاقِ في «المصنَّفِ» (10029)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (18430)، وفي «تحفة الحبيبِ على شرح الخطيبِ» (5/ 162):«إنَّه أُرسلَ إليهم نبيٌّ يقالُ له: زَرَادُشْت، وكانَ له كتابٌ، فلما بدَّلوه رُفعَ، ومعنى كونِهم لهم شبهةُ كتابٍ؛ أنَّهم يزعمون أنَّ لهم كتابًا باقيًا، وليسَ كذلك» .

ص: 429

-يعني في الجزيةِ على رؤوسِ الرِّجالِ- على الغنيِّ ثمانيةً وأربعين درهمًا، وعلى الوسطِ أربعةً وعشرين، وعلى الفقيرِ اثني عشرَ درهمًا»

(1)

، وكان صرفُ الدينارِ يساوي اثني عشرَ درهمًا.

قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِمُ الضِّيَافَةُ فَضْلًا عَنْ مِقْدَارِ الْجِزْيَةِ» ، يجوزُ للإمامِ أنْ يشرطَ على أهلِ الذِّمَّةِ إذا صُولحوا في بلدِهم ضيافةَ مَنْ يمرُّ بهم مِنَ المسلمينَ زيادةً على الجزيةِ؛ إذا رَضوا بذلك، وتجعلُ على الغنىِّ والمتوسطِ لا على الفقيرِ؛ لأنَّها قد لا تتيسرُ له، ويجعلُ ذلك ثلاثةَ أيامٍ فأقلَّ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم:«ضربَ على نصارَى أيلةَ ثلاثَمائةِ دينارٍ كلَّ سنةٍ، وأنْ يُضيِّفُوا مَن مرَّ بهم منَ المسلمين ثلاثًا»

(2)

.

قالَ الشافعيُّ رحمه الله: «ولا يجوزُ أنْ يحملَ على الرجلِ منهم في اليومِ والليلةِ ضيافةً إلا بقدرِ ما يحتملُ، إنِ احتملَ واحدًا أو اثنين أو ثلاثةً، ولا يجوزُ عندي أنْ يحملَ عليه أكثرَ مِن ثلاثةٍ -وإنْ أيسرَ- إلا بإقرارِهم»

(3)

.

ويَلْزَمُ المسلمين الكفُّ عنهم، وضمانُ ما يُتلِفونَه عليهم من نفسٍ ومالٍ، ودفعُ أهلِ الحربِ عنهم إنْ كانوا في بلدٍ من بلدانِ الإسلامِ، أو في بلدٍ مجاورٍ له، ويُمنعونَ من بناءِ كنيسةٍ في بلدٍ

(1)

رواه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (18465)، وقالَ:«وكذلك رواه قتادةُ عن أبي مخلدٍ عن عمرَ، وكلاهما مرسلٌ» .

(2)

رواه البيهقيُّ في «السنن الكبرى» (18678)، والدينارُ يساوي أربعَ جراماتٍ وربعَ جرامٍ منَ الذهبِ.

(3)

«الأم» (4/ 216).

ص: 430

أحدَثه المسلمون، وكذلك ما فتحوه عَنْوَةً، قالَ الشافعيُّ رحمه الله:«فإن كانوا في قريةٍ يملكونها منفردينَ لم نتعرضْ لهم في خمرِهم وخنازيرِهم ورفعِ بنيانِهم، وإن كانَ لهم بمصرِ المسلمين كنيسةٌ أو بناءٌ طائلٌ لبناءِ المسلمين لم يكنْ للمسلمين هدمُ ذلك، وتُركوا على ما وُجِدُوا، ومُنِعُوا إحداثَ مثلِه، وهذا إن كانَ المصرُ للمسلمين؛ أحيَوه أو فتحوه عَنْوةً، وشُرِطَ هذا على أهلِ الذِّمَّةِ، وإنْ كانوا فتحوا بلادَهم على صُلحٍ منهم على تركِهم ذلك خُلُّوا وإياه، ولا يجوزُ أن يُصَالَحُوا على أنْ ينزلوا بلادَ الإسلامِ يُحدِثوا فيها ذلك»

(1)

.

قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيَتَضَمَّنُ عَقْدُ الْجِزْيَةِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ:

1 -

أَنْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ»؛ أي: المتفقَ عليها؛ سواءٌ كانَتْ دينارًا أو أكثرَ.

2 -

«وَأَنْ تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ» ، وذلك في غيرِ العباداتِ من حقوقِ الآدميينَ في المعاملاتِ، وغرامةِ المتلفاتِ، وكذا ما يعتقدون تحريمَه كالزنا والسرقةِ؛ دونَ ما لا يعتقدون تحريمَه، كشُربِ الخمرِ ونكاحِ المجوسِ، وقد فُسِّرَ الصَّغَارُ في قولِه تعالى:{حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]؛ بالتزامِ أحكامِ الإسلامِ، وجريانِها عليهم، يقولُ تقيُّ الدينِ الحصنيُّ رحمه الله:«أشدُّ الصَّغارِ على المرءِ أنْ يُحكمَ عليه بما لا يعتقدُه، ويُضطرَّ إلى احتمالِه»

(2)

.

(1)

«مختصر المزني» (ص: 364).

(2)

«كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار» (ص: 512).

ص: 431

3 -

«وَأَنْ لَا يَذْكُرُوا دِينَ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِخَيْرٍ» ، فلو ذكرَ أحدٌ منهم الإسلامَ بما لا يليقُ عُزِّرَ، وإنْ كانَ شُرِطَ انتقاضُ العهدِ بذلك انتُقِضَ عهدُه، فلا يكونُ منْ أهلِ الذِّمَّةِ، بل يصيرُ حربيًّا، فيتخيرُ الإمامُ فيه كما يتخيرُ في الأسيرِ، ومَنْ انتُقِضَ عهدُه لم يُنتقضْ عهدُ امرأتِه ولا أولادِه؛ لأنَّهم غيرُ محاسبِين على أفعالِه.

4 -

«وَأَنْ لَا يَفْعَلُوا مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ» ، نحوُ إيوائِهم جاسوسًا، أو أنْ يُعينوا أهلَ الحربِ على المسلمين، أو يدُلُّوهم على خَللٍ عندَهم، فمَنْ فعلَ شيئًا مِنْ ذلك أو نحوِه انتُقضَ عهدُه.

قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيُعْرَفُونَ بِلُبْسِ الْغِيَارِ، وَشَدِّ الزُّنَّارِ» ، الغِيارُ: أن يَخيطَ الذميُّ على ثوبِه شيئًا يخالفُ لونَ ثوبِه، ويكونُ ذلك على الكتفِ، والزُّنَّارُ خيطٌ غليظٌ يُشَدُّ في الوسطِ فوقَ الثِّيابِ، والغرضُ من ذلك أن يتميزوا عنِ المسلمين؛ ليُعرفوا ويُعاملوا بما يليقُ بِهم.

قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيُمْنَعُونَ مِنْ رُكُوبِ الْخَيْلِ» ؛ لأنَّ الخيلَ من أدواتِ الجهادِ، قالَ تعالى:{وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم} [الأنفال: 60]، وقالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم:«الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ: الأَجْرُ وَالمَغْنَمُ»

(1)

.

(1)

رواه البخاري (2697)، ومسلم (1873).

ص: 432

وحتَّى لا يظهروا بمظهرِ التَّعالي والعزَّةِ أمامَ المسلمين.

تتمةٌ: يجوزُ للإمامِ عقدُ الهدنةِ معَ الكُفَّارِ، وتكونُ أربعةَ أشهرٍ إن كانَ بالمسلمين قوة، وكانَتِ المصلحةُ في عقْدِها؛ رجاءَ إسلامِهم، أو بذلِهم الجزيةَ، أو غيرِ ذلك منَ المصالحِ، فإنْ كانَ بالمسلمين ضعفٌ جازَتْ إلى عشرِ سنينَ فما دونَها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم هادنَ صفوانَ بنَ أميةَ أربعةَ أشهرٍ عامَ الفتحِ رجاءَ إسلامِه، وكانَ المسلمون في قوةٍ، وهادنَ قريشًا عامَ الحديبيةِ عشرَ سنينَ، وكانَ بالمسلمين ضعفٌ، فإنْ زادَ الإمامُ المدةَ على أربعةِ أشهرٍ في الحالةِ الأولى، وعلى العشرِ في الحالةِ الثانيةِ؛ بطلَ العقدُ في الزائدِ

(1)

.

تنبيهٌ: الجزيةُ نعمةٌ عُظمى تُسدَى لأهلِ الذِّمَّةِ، فإنَّ الكافرَ إذا قُتلَ على كفرِه ضاعَتْ عليه فرصةُ التوبةِ والدخولِ في الإسلامِ، ووجبَ عليه الخلودُ في النارِ، فشرعَ اللهُ تعالى الجزيةَ رجاءَ أنْ يُسلِمَ في المستقبلِ؛ لا سيَّما معَ اطِّلاعِه على محاسنِ الإسلامِ، فإذا لم يُسلمْ فقد حصَّلَ منفعةً دنيويَّةً، فالجزيةُ تعصمُ أرواحَ أهلِ الذِّمَّةِ، وتحفظُ أعراضَهم وأموالَهم، يقولُ القرافيُّ رحمه الله: «عقدُ الذمةِ يوجبُ حقوقًا علينا لهم؛ لأنَّهم في جوارِنا وفي خفارتِنا وذمةِ اللهِ تعالى وذمةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم ودينِ الإسلامِ، فمَنِ اعتدى عليهم ولو بكلمةِ سُوءٍ أو غِيبَةٍ في عِرضِ أحدِهم أو نوعٍ منْ أنواعِ الأذيةِ أو أعانَ على ذلك فقد ضيَّعَ ذمةَ اللهِ تعالى وذمةَ رسولِه صلى الله عليه وسلم وذمةَ دينِ الإسلامِ. وكذلك حكى ابنُ حزمٍ في (مراتبِ الإجماعِ) له أنَّ

(1)

«السنن الكبرى» للبيهقيُّ (18821)، و «روضة الطالبين» للنووي (10/ 336).

ص: 433

مَنْ كانَ في الذِّمَّةِ وجاءَ أهلُ الحربِ إلى بلادِنا يقصدونَه وجبَ علينا أنْ نَخرجَ لقتالِهم بالكُراعِ والسِّلاحِ، ونموتُ دونَ ذلك؛ صونًا لمَنْ هو في ذمةِ اللهِ تعالى وذمةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم؛ فإنَّ تسليمَه دونَ ذلك إهمالٌ لعقدِ الذِّمَّةِ»

(1)

.

وقد أدركَ هذه النعمةَ أهلُ الذمةِ الأوائلُ، وقد ذكرَ البلاذريُّ رحمه الله أنَّ أبا عبيدةَ بنَ الجراحِ رضي الله عنه عندَما فتحَ الشامَ، وأخذَ الجزيةَ منْ أهلِها؛ اشترطوا عليه أنْ يحميَهم منَ الرُّومِ الذين كانوا يَسومونهم المذلةَ والمهانةَ والاضطهادَ، فقَبِل أبو عبيدةَ رضي الله عنه، ثُمَّ بلغَه أنَّ هرقلَ أعدَّ جيشًا عظيمًا لاستردادِ الشامِ من المسلمين، وأنَّ الرومَ قد توجهوا لقتالِهم في اليرموكِ، فردَّ أبو عبيدةَ رضي الله عنه على أهلِ حمصَ ما أخذَ منهم منَ الجزيةِ، وقالَ: شُغِلْنا عن نصرتِكم والدفعِ عنكم، فأنتم على أمرِكم، فقالَ أهلُ حمصَ: لَوَلايتُكُم وعَدْلُكم أحبُّ إلينا مما كنَّا فيه منَ الظلمِ والغشمِ، ولَندفعَنَّ جندَ هرقلَ عنِ المدينةِ معَ عامِلِكم، ونهضَ اليهودُ فقالوا: والتوارةِ لا يدخلُ عاملُ هرقلَ مدينةَ حمصَ إلا أنْ نغلبَ ونجهدَ، فأغلقوا الأبوابَ وحرسوها، وكذلك فعلَ أهلُ المدنِ التى صُولِحَتْ منَ اليهودِ والنصارى، وقالوا: إنْ ظهرَ الرومُ وأتباعُهم على المسلمين صِرْنا إلى ما كُنَّا عليه؛ أيْ: منَ المذلةِ والمهانةِ والاضطهادِ، وإلَّا فإنَّا على أمرِنا ما بقي للمسلمين عددٌ، فلمَّا هزمَ اللهُ الرومَ، وأظهرَ المسلمين؛ فتحوا مدنَهم، وأخرجوا

(1)

«الفروق» (3/ 14).

ص: 434

المُقَلِّسِين فلعبوا، وأدَّوا الجزيةَ

(1)

.

فقد أقرَّ أهلُ حمصَ بأنَّ حكمَ المسلمين -معَ خلافِهم لهم في الدينِ- أحبُّ إليهم من حكمِ أبناءِ دينِهم، وذلك لما ينطوي عليه ذلك الحكمُ من ظلمٍ وجَورٍ واضطهادٍ وعدمِ احترامٍ للنفسِ البشريةِ.

ولْيُعلمْ أنَّ الإسلامَ حينَما فرَضَ الجزيةَ على مَن دخلوا في ذمةِ المسلمين لم يكنْ ظالمًا، وإنَّما كانَ عادلًا كلَّ العدلِ؛ لأنَّه ما شرعَها إلَّا لتكونَ في مقابلِ ما فُرِضَ على المسلمين منَ الزكاةِ، والتي هي عبادةٌ لا تَصِحُّ مِن كافرٍ، فكلٌّ مِنَ الفريقين يبذلُ جزءًا مِن مالِه ليُنفَقَ في مصارفِه، مِن أرزاقِ الجندِ، والمرافِقِ العامةِ، ونحوِ ذلك مما ينتفعُ به الجميعُ.

وقد سبقَ أنَّ الإسلامَ وضعَ الجزيةَ عنِ النساءِ والصبيانِ والعبيدِ مِنْ أهلِ الكتابِ، بلْ لمَّا مرَّ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه ببابِ قومٍ وعليه شيخٌ كبيرٌ ضريرُ البصرِ يسألُ؛ ضربَ عضدَه مِن خلفِه، وقال:«مِن أيِّ أهلِ الكتابِ أنتَ؟» ، فقالَ: يهوديٌّ، قالَ:«فما ألجأَكَ إلى ما أرَى؟» ، قالَ: أسألُ الجزيةَ، والحاجةُ والسنُّ، فأخذَ عمرُ رضي الله عنه بيدِه، وذهبَ به إلى منزلِه، فرَضخَ له بشيءٍ منَ المنزلِ، ثُمَّ أرسلَ إلى خازنِ بيتِ المالِ فقالَ:«انظرْ هذا وضرباءَه، فوَاللهِ ما أنصفْناه أنْ أكلْنا شَبِيبتَه؛ ثُمَّ نخذلُه عندَ الهَرَمِ»

(2)

.

(1)

«فتوح البلدان» للبلاذري (1/ 162)، والمُقَلِّسُون: همُ الذين يلعبون بينَ يدَي الأميرِ إذا وصلَ البلدَ، ويقالُ للواحدِ منهم: مُقَلِّسٌ.

(2)

رواه أبو يوسف في «الخراج» (ص: 139).

ص: 435

وقالَ رضي الله عنه في وصيتِه الأخيرةِ عندَ موتِه للخليفةِ الذي سيأتي بعدَه: «وأوصيه بذِمَّةِ اللهِ وذمةِ رسولِه أن يُوفَّى لهم بعهدِهم، وأن يُقاتَلَ مِن ورائِهم، ولا يُكلَّفوا إلا طاقتَهم»

(1)

.

وكتبَ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضي الله عنه لعاملِه على الجزيةِ: «إذا قدِمْتَ عليهم فلا تبيعَنَّ لهم كسوةً؛ شتاءً ولا صيفًا، ولا رزقًا يأكلونه، ولا دابةً يعملون عليها، ولا تضربَنَّ أحدًا منهم سوطًا واحدًا في درهمٍ، ولا تُقِمْه على رجلِه في طلبِ درهمٍ، ولا تبعْ لأحدٍ منهم عَرَضًا في شيءٍ منَ الخَراجِ؛ فإنَّا إنَّما أُمرْنا أنْ نأخذَ منهم العفوَ، فإنْ أنتَ خالفْتَ ما أمرتُك به يأخذْك اللهُ به دوني، وإنْ بلغَني عنك خلافُ ذلك عزلْتُك» ، قالَ: إذنْ أرجِعَ إليك كما خرجتُ مِن عندَك، قالَ:«وإنْ رجعتَ كما خرجتَ»

(2)

.

وكتبَ خالدُ بنُ الوليدِ رضي الله عنه في عهدِ ذمتِه لأهلِ الحِيرةِ: أيُّما شيخٍ ضعُفَ عنِ العملِ، أو أصابتْه آفةٌ منَ الآفاتِ أو كانَ غنيًّا فافتقرَ وصارَ أهلُ دينِه يتصدقون عليه؛ طرحْتُ جزيتَه وعِيلَ من بيتِ مالِ المسلمين وعيالُه»

(3)

.

هذا هو الإسلامُ، وهذا هو الجهادُ، مهما حاولَ أعداءُ الإسلامِ والحاقدون عليه أن يُشوِّهوا صورتَه؛ سواءٌ كانَ بالكذبِ

(1)

رواه البخاري (2887).

(2)

رواه أبو يوسفَ في الخراج (ص: 25)، والعرَضُ: المتاعُ، والعفوُ: هو ما زادَ على الحاجةِ.

(3)

المصدر السابق (ص: 157 - 158).

ص: 436

والبهتانِ، أو بإثارةِ الشُّبهاتِ، وإلا فأينَ هُم منْ هذهِ الأحكامِ والتشريعاتِ؟! وأينَ هم مما يفعلُه أهلُ الكفرِ من الممارساتِ الوحشيةِ في شتَّى بقاعِ الأرضِ باسمِ الاستعمارِ والتحريرِ؟! أينَ هُم منَ القتلِ والسلبِ والنهبِ وذبحِ الأطفالِ واغتصابِ النساءِ والفظائعِ والمظالمِ التي تحدثُ يوميًّا على مرأَى ومسمعِ العالمِ بأسرِه؟! أينَ هُم منَ الدمارِ والهلاكِ الذي تتورعُ عنه الوحوشُ في غابِها؟! هذا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يقولُ عندَما فتحَ مكةَ:«مَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ»

(1)

.

يقولُ هذا لمَنْ أخرجوه مِن بلدِه، وتآمروا على قتلِه، وقد مكنَه اللهُ تعالى مِن رقابِهم، يقولُ: إنَّه لن يُقاتلَ إلا مَنْ حملَ السلاحَ، أمَّا مَن دخلَ دارَه فهو آمنٌ، ومَن خرجَ مِن دارِه ولم يحملْ سلاحًا فهو آمنٌ.

إنَّ الإسلامَ عندَما شرعَ الجهادَ إنَّما شرعَه لمقاصدَ عظيمةٍ، وغاياتٍ نبيلةٍ؛ منها: ردُّ العدوانِ، وحمايةُ الدعوةِ، لا لإكراهِ الناسِ على أنْ يتركوا أديانَهم ويعتنقوه، قالَ تعالى:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256].

شرعَ اللهُ تعالى الجهادَ لإتاحةِ الفرصةِ للضعفاءِ الذين يريدونَ اعتناقَ الإسلامِ، ويمنعُهم المجرمون والظلمةُ ممَّنْ يسومونَهم سوءَ

(1)

رواه مسلم (1780).

ص: 437

العذابِ، قالَ تعالى:{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا} [النساء: 75].

شرعَ اللهُ تعالى الجهادَ لإقامةِ العدلِ بينَ الناسِ، ولرفعِ الظلمِ عنِ المستضعفين؛ حتَّى ولو لم يدخلوا في الإسلامِ، فلم يسمحْ لأحدٍ أنْ يظلمَ أحدًا؛ سواءٌ كانَ مسلمًا أو كافرًا، ولذلك لا يُعادي هذا الدينَ إلا الظلمةُ والمفسدون في الأرضِ، الذين يريدون أنْ يستعبدوا الناسَ، وكذلك الدجالون والخونةُ منَ المنافقين الذين لا عملَ لهم إلا في كَنَفِ هؤلاءِ الظلمةِ.

واللهُ تعالى أعلمُ.

ص: 438