الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَلَا يَلْحَقُ الْمُخْتَلِعَةَ الطَّلَاقُ» ؛ أيْ: لا يَلْحَقُ المختلِعةَ في عِدَّتِها طلاقٌ بلفظٍ صريحٍ، أو كنايةٍ، وكذلك لا يَلْحَقُها إيلاءٌ ولا ظِهارٌ؛ لأنَّها صارتْ أجنبيَّةً بافتداءِ نَفْسِها.
«فَصْلٌ»
في الطَّلَاق
الطَّلاقُ في اللُّغةِ: هو حَلُّ القيدِ، يقالُ: ناقةٌ طالِقٌ؛ أي: مُرْسَلَةٌ ترعى حيثُ شاءتْ.
وفي الاصطلاحِ: هو حَلُّ عَقْدِ النِّكاحِ بلفظِ الطَّلاقِ ونحوِه.
والأصلُ فيه قبْلَ الإجماعِ قولُه تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]، وغيرُها من الآياتِ.
وذَكَرَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رضي الله عنه: «أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَلَّقَ حَفْصَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا»
(1)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَالطَّلَاقُ ضَرْبَانِ: صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ» ، الطَّلاقُ نوعانِ: صريحٌ وكنايةٌ، فالصَّريحُ: هو ما لا يَحتملُ ظاهرُه غيرَ الطَّلاقِ، فلو قالَ: لم أنوِ به الطَّلاقَ، لم يُقْبَلْ قولُه، وأمَّا الكنايةُ: فهو ما يَحتملُ الطَّلاقَ وغيرَه، فلو قالَ: لم أنوِ به الطَّلاقَ، قُبِلَ قولُه.
قال أبو شجاع رحمه الله: «فَالصَّرِيحُ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ: الطَّلَاقُ وَالْفِرَاقُ وَالسَّرَاحُ وَلَا يَفْتَقِرُ صَرِيحُ الطَّلَاقِ إِلَى النِّيَّةِ» ، وذلك لورودِ
(1)
رواه أبو داود (2283)، وابن ماجه (2016)، وابن حبَّان (4275)، والحاكم (2797)، وصحَّحه، وأقرَّه الذَّهبي.
هذه الألفاظِ في الشَّرعِ بمعنى الطَّلاقِ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطَّلاق: 1]، وقال تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطَّلاق: 2]، وقال تعالى:{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، فإن خاطَبَ الرَّجُلُ امرأتَه بشيءٍ من هذه الألفاظِ الثَّلاثةِ، أو ما اشتُقَّ منها -كطَلَّقْتُكِ، وأنتِ طالقٌ، ومُطَلَّقَةٌ، أو فارقتُكِ، وأنتِ مُفَارَقَةٌ، وسَرَّحْتُكِ، وأنتِ مُسَرَّحَةٌ- وَقَعَ الطَّلاقُ، فإن قالَ: أردتُ غيرَها فسَبَقَ لساني إليها لم يُقْبَلْ؛ لأنَّه يدَّعي خِلافَ الظَّاهرِ، ويُدَيَّنُ فيما بَيْنَهُ وبينَ اللهِ تعالى؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ ما يدَّعيه، فإن عَلِمَتِ المرأةُ صِدْقَهُ فيما دُيِّنَ فيه جازَ لها أن تقِيمَ معه، فإن قالَ: قد فارقتُكِ سائرًا إلى المسجدِ، أو سَرَّحْتُكِ إلى أَهْلِكِ، أو قد طَلَّقْتُكِ من وَثَاقِكِ، أو ما أشْبهَ هذا؛ لم يَكُنْ طلاقًا، فإن قيلَ: قد يَكونُ هذا طلاقًا تَقَدَّمَ فأَتْبَعَه كلامًا يَخْرُجُ به منه؛ قيلَ: قد يقولُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ يُبَيِّنُ آخِرَ كلامِه عن أوَّلِه، ولو أَفْرَدَ لا إلَهَ؛ كان كافرًا.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَالْكِنَايَةُ كُلُّ لَفْظٍ احْتَمَلَ الطَّلَاقَ وَغَيْرَهُ، وَيَفْتَقِرُ إِلَى النِّيَّةِ» ، كأن يقولَ الرَّجلُ لامرأتِه: أنتِ خَلِيَّةٌ؛ أي: خاليةٌ من الأزواجِ، وبَرِيَّةٌ؛ أي: بَرِئْتِ من الزَّوجِ، وبَتَّةٌ؛ أي: قَطَعْتُ الوصلَ بَيْنَنا، وبتلةٌ؛ من تَبَتَّلَ الرَّجُلُ إذا تَرَكَ النِّكاحَ وانفردَ، وبائنٌ؛ من البَيْنِ وهو الفِراقُ، وأنتِ حُرَّةٌ، وواحدةٌ، واعتدِّي، واستبرِئي رَحِمَكِ، والحَقِي بأهلِكِ، وحبلُكِ على غاربِكِ، وتَقَنَّعي، وتَسَتَّري، وبِينِي، وأنتِ حرامٌ، وأنتِ عليَّ مُحَرَّمَةٌ، فإن خاطبَها بشيءٍ من ذلك ونوى به الطَّلاقَ وَقَعَ، وإن لم ينوِ لم يَقَعْ؛ لأنَّه يَحْتَمِلُ الطَّلاقَ وغيرَه.
ودليلُ ذلك حديثُ كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه عندما تَخَلَّفَ عن غزوةِ تَبُوكَ قالَ: «لمَّا مضتْ أربعونَ من الخمسينَ واستلبثَ الوحيُ، وإذا رسولُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأتيني، فقالَ: إنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يأمُرُكَ أن تعتزلَ امرأتَكَ، فقلتُ: أُطَلِّقُها أم ماذا أفْعلُ؟ قالَ: بل اعتزِلْها فلا تَقْرَبَنَّها، فقلتُ لامرأتي: الحقِي بأهلِكِ»
(1)
؛ فَعَلَ ذلك خشيةَ أن يخالفَ أمرَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ويعاشرَها إذا بَقِيَتْ عندَه، ولم يُردِ الطَّلاقَ، فلمَّا نزَلَت توبتُه رَجَعَت زوجتُه إليه، ولم يأمرْه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بفِراقِها، أو بتجديدِ عقدِه عليها.
وفي حديثِ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ ابنةَ الجَوْنِ لمَّا أُدْخِلَتْ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ودَنا منها قالت: أعُوذُ باللهِ منك، فقال لها:«لَقَدْ عُذْتِ بِعَظِيمٍ، الحَقِي بِأَهْلِكِ»
(2)
، وكانَ ذلك طلاقًا لها؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أرادَ الطَّلاقَ؛ فوَقَعَ.
فدَلَّ على أنَّ قولَ: «الحَقِي بأهلِكِ» ، وما شابَهَهُ مِن ألفاظِ الكِناياتِ لا يقعُ طلاقًا إلَّا إذا كانَ مصحوبًا بنيَّةِ الطَّلاقِ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَالنِّسَاءُ فِيهِ ضَرْبَانِ:
1 -
ضَرْبٌ فِي طَلَاقِهِنَّ سُنَّةٌ وَبِدْعَةٌ، وَهُنَّ ذَوَاتُ الْحَيْضِ؛
(1)
رواه البخاري (4156)، ومسلم (2769)، وقوله:«استلبثَ الوحيُ» ؛ أي: تأخَّرَ نزولُه.
(2)
رواه البخاري (4955)، وابنةُ الجونِ: هي أميمةُ بنتُ النُّعمانِ بنِ شَراحيلَ أبي جونٍ الكِنْدِيَّةُ، وكانت جميلةً فخافَ نساؤُه أن تَغْلِبَهُنَّ عليه صلى الله عليه وسلم، فقلنَ لها: إنَّه يعجبُه أن يُقالَ له: نعوذُ باللهِ منك، فَفَعَلَتْ. و «أعوذُ»؛ أي: ألتجئُ.
فَالسُّنَّةُ: أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ فِي طُهْرٍ غَيْرَ مُجَامِعٍ فِيهِ، وَالْبِدْعَةُ: أَنْ يُوقِعَ الطَّلَاقَ فِي الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ»، المرادُ بالسُّنَّةِ الطَّلاقُ الجائزُ، وبالبدعةِ الطَّلاقُ الحرامُ؛ والسُّنَّةُ أن يُوقِعَ الزَّوجُ الطَّلاقَ في طُهْرٍ غيرَ مُجامِعٍ فيه؛ والبدعةُ أن يُوقِعَ الزَّوجُ الطَّلاقَ في الحيضِ أو في طهرٍ جامَعَها فيه؛ يقولُ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضي الله عنهما طَلَّقْتُ امرأتي وهي حائضٌ فذَكَرَ ذلك عمرُ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فتَغَيَّظَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثمَّ قالَ:«مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ العِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»
(1)
؛
أيْ: بقولِه تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطَّلاق: 1]؛ أيْ: لاستقبالِ عِدَّتِهِنَّ، وعِدَّةُ ذواتِ الحيضِ ثلاثةُ قروءٍ، قال تعالى:{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، والقَرْءُ عندَ الشَّافعيِّ رحمه الله الطُّهرُ
(2)
، وعليه فإنَّها إن طُلِّقَتْ في الحيضِ سَتَطولُ عِدَّتُها بزمنِ الحيضةِ التي طُلِّقَتْ فيها؛ لأنَّها لن تُحْتَسَبَ من عِدَّتِها، وكذلك إذا طُلِّقَتْ في طهرٍ جامَعَها فيه؛ لأنَّ
(1)
رواه البخاري (4953)، ومسلم (1471) ..
(2)
القُرءُ في اللُّغةِ يُطْلَقُ على الحيضِ والطُّهْرِ، قال ابنُ الأنباريِّ في «الأضداد» (ص: 27): «يقالُ: القُرْءُ للطُّهْرِ، وهو مذهبُ أهلِ الحجازِ، والقُرْءُ للحيضِ، وهو مَذْهبُ أهلِ العراقِ» ، ولهذا اختَلَفَ الفقهاءُ في المرادِ منه، فمن قال: إنَّ المرادَ به الحيضُ اشتَرَطَ في العِدَّةِ ثلاثَ حيضاتٍ كاملةٍ؛ أيْ: لا تَخْرُجُ من العِدَّةِ إلَّا بانقطاعِ الدَّمِ من الحيضةِ الثَّالثةِ، وأمَّا من قالَ: المرادُ به الطُّهرُ ومنهم الشَّافعيُّ رحمه الله فاشترَطَ ثلاثةَ أطهارٍ، تبدأُ بطُهرٍ لم يجامعْها فيه، وتنتهي بمجرَّدِ رؤيةِ الدَّمِ بعدَ الطُّهرِ الثَّالثِ.