الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ السَّبْقِ والرَّمي
السَّبْقُ بالسكونِ: مصدرُ سبَقَ؛ أي: تقدمَ، وبالتحريكِ: المالُ الموضوعُ بينَ أهلِ السباقِ، والرميُ يشملُ الرميَ بالسهامِ وغيرِهما.
والأصلُ في ذلك قبلَ الإجماعِ الكتابُ والسُّنَّةُ قالَ اللهُ تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
يقول عقبة بن عامر رضي الله عنه: سمعت رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهو على المنبرِ يقولُ: «أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ»
(1)
.
وقال سلمةُ بنُ الأكوعِ رضي الله عنه: مَرَّ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم على نفرٍ مِنْ أسلمَ ينتضلون، فقالَ:«ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارْمُوا وَأَنَا مَعَ بَنِي فُلَانٍ» ، فأمسكَ أحدُ الفريقين بأيديْهم، فقالَ صلى الله عليه وسلم:«مَا لَكُمْ لَا تَرْمُونَ؟!» ، قالوا: كيفَ نرمي وأنتَ معهم؟! فقالَ صلى الله عليه وسلم: «ارْمُوا فَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ»
(2)
.
وقالَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضي الله عنهما: «أجرى النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ما ضُمِّرَ منَ
(1)
رواه مسلم (1917).
(2)
رواه البخاري (2743)، والنَّفرُ: من ثلاثةٍ إلى عشرةٍ منَ الرجالِ، وأسلمَ: هو اسمٌ لقبيلةٍ كانَت مشهورةً، وإسماعيلُ: هو ابنُ إبراهيمَ عليهما السلام.
الخيلِ منَ الحَفْيَاءِ إلى ثَنِيَّةِ الوداعِ، وأجرى ما لم يُضَمَّرْ منَ الثنيَّةِ إلى مسجدِ بَني زُرَيْقٍ»، ثُمَّ قال:«وكنتُ فيمَنْ أجرى»
(1)
.
وفي روايةٍ: «فجئتُ سابقًا، فطفَّفَ بي الفرسُ مسجدَ بني زريقٍ»
(2)
.
وقد زادَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في المسافةِ للخيلِ المضمرةِ لقُوَّتِها، ونَقَّصَها في الخيلِ التي لم تُضَمَّرْ لقصورِها عنْ شأْوِ ذاتِ التضميرِ؛ ليكونَ عدلًا منه صلى الله عليه وسلم بينَ النوعينِ، وكلُّ ذلك إعدادٌ للقوةِ في إعزازِ كلمةِ اللهِ، وفي هذا الحديثِ دليلٌ على اشتراطِ المسافةِ، فلا بدَّ أنْ تكونَ معلومةً؛ ابتداءً وغايةً.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَتَصِحُّ الْمُسَابَقَةُ عَلَى الدَّوَابِّ، وَالْمُنَاضَلَةُ بِالسِّهَامِ إِذَا كَانَتْ الْمَسَافَةُ مَعْلُومَةً، وَصِفَةُ الْمُنَاضَلَةِ مَعْلُومَةً» ، تجوزُ المسابقةُ على الدوابِّ، كالخيلِ والإبلِ والبغالِ والحميرِ والفيلةِ، وكذلك المراماةُ بالسهامِ وما أشبهَها من آلاتِ الحربِ، كالرَّصاصِ والصواريخِ وغيرِهما؛ سواءٌ كانَت بعِوَضٍ، أو
(1)
رواه البخاري (2713)، ومسلم (1870)، وأُضْمِرَت الخَيلُ: عُلِفَتْ حتَّى سَمِنَت وَقَوِيَت، ثُمَّ قُلِّلَ عَلَفُها بِقَدْرِ القُوتِ، وأُدْخِلَت بَيْتًا، وَغُشِّيَت بالجِلالِ حتَّى حَمِيَت وَعَرِقَت، فإذا جَفَّ عَرَقُها خَفَّ لَحْمُها وَقَوِيَت على الجَري، والحفياءُ: موضعٌ بقربِ المدينةِ، وأمدُها: أي: غايتُها ونهايةُ مسافةِ سبقِها، والثنيَّةُ: أي: ثنيةُ الوداعِ، وهي في الأصلِ الطريقُ إلى الجبلِ أو فيه، وسميت بذلك لأنَّ الخارجَ من المدينةِ يمشي معَه المودِّعون إليها، وبينَ الحفياءِ وبينَ الثنيَّةِ خمسةُ أميالٍ أو ستةٌ، وبينَ الثنيَّةِ والمسجدِ ميلٌ.
(2)
رواه مسلم (1870)، وطففَ: أي جاوزَ الفرسُ به المسجدَ؛ لأنَّه كانَ الغايةَ.
بغيرِ عوَضٍ؛ لحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا سَبَقَ إِلَّا فِي نَصْلٍ، أَوْ خُفٍّ، أَوْ حَافِرٍ»
(1)
.
والمعنى: لا يحلُّ أخذُ المالِ بالمراهنةِ إلا في الثَّلاثةِ المذكورةِ، وقد كانتْ هذه الثلاثةُ هي آلاتِ الحربِ والقتالِ في عهدِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فيلحقُ بها كلُّ ما كانَ كذلك حسبَ الزمانِ والمكانِ
(2)
.
ويُشترطُ في الرميِ أنْ تكونَ المسافةُ التي بينَ موقفِ الرامي والغرضِ الذي يُرمي إليه معلومةً؛ ابتداءً وغايةً.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيُخْرِجُ الْعِوَضَ أَحَدُ الْمُتَسَابِقَيْنِ حَتَّى إِنَّهُ إِذَا سَبَقَ اسْتَرَدَّهُ، وَإِنْ سُبِقَ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ» ، يُخرِجُ المالَ المشروطَ أحدُ المتسابقينِ، حتَّى إذا سَبَقَ استردَ مالَه، وإن سُبِقَ أخذَ العوضَ صاحبُه السابقُ، وليسَ هذا منَ القِمارِ المحرَّمِ؛ لأنَّ الدفعَ من طرفٍ واحدٍ، يقولُ الرافعيُّ رحمه الله: «القِمارُ أنْ يكونَ كلُّ واحدٍ منهما مُتَرَدِّدًا بينَ أنْ يغنمَ ويغرمَ، وليسَا ولا واحدٌ منهما
(1)
رواه أحمد (10142)، وأبو داود (2574)، والترمذي (1700)، والنسائي (3585)، وابن ماجه (2878)، وابن حبَّان (3906)، والسبَقُ: هو المالُ المشروطُ في السباقِ، والنصلُ: القِسْمُ الذي يجرحُ منَ السهمِ أو الرمحِ ونحوِهما، والمرادُ الرميُ به، والخفُّ؛ أي: ذواتُ الخفافِ، كالإبلِ والفيلةِ، والحافرُ؛ أي: ذواتُ الحوافرِ، كالخيلِ والبغالِ والحميرِ.
(2)
ولا تجوزُ مهارشةُ الديكةِ ومناطحةُ الكباشِ، وأمثالُ ذلك، لا بعوضٍ ولا بغيرِه؛ لأنَّ فعلَ ذلك سفَهٌ، ومِن فعلِ قومِ لوطٍ الذين أهلكَهم اللهُ بذنوبِهم، ولأنَّها ليسَتْ من آلاتِ القتالِ.
كذلك، أمَّا المُخرجُ فإنَّه مُتردِّدٌ بينَ أنْ يغرمَ وبينَ ألا يغرمَ، ولا يغنمُ بحالٍ، وأمَّا الآخرُ فمترددٌ بينَ أنْ يغنمَ، وبينَ أنْ لا يغنمَ، ولا يغرمُ بحالٍ»
(1)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَإِنْ أَخْرَجَاهُ مَعًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يُدْخِلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا، فَإِنْ سَبَقَ أَخَذَ الْعِوَضَ وَإِنْ سُبِقَ لَمْ يَغْرَمْ» ، إنْ أخرجَ المتسابقانِ العوضَ معًا لم يجزْ حينئذٍ إلا أنْ يُدخِلَا بينهما محلِّلًا، وسمِّيَ محلِّلًا لأنَّه يحللُ العقدَ، ويخرجُه عن صورةِ القمارِ المحرمةِ فإنَّ المحللَ إنْ سبقَ المتسابقَينِ أخذَ ما أخرجاه مِن العوضِ لنفسِه؛ سواءٌ أجاءَا معًا أم مرتبًا لسبقِه لهما، وإنْ سبقاه وجاءَا معًا لم يغرَمْ لهما شيئًا ولا شيءَ لأحدِهما على الآخرِ، وإن جاءَ المحلِّلُ معَ أحدِ المتسابقينِ وتأخرَ الآخرُ فمالُ هذا لنفسِه؛ لأنَّه لم يسبقْه أحدٌ، ومالُ المتأخرِ للمحلِّلِ.
ويجوزُ أنْ يكونَ العوضُ مشروطًا مِن غيرِهما، كأنْ يشرطَه الإمامُ منْ بيتِ المالِ، أو أحدُ الرعيةِ منْ مالِه، للسابقِ منهما.
واللهُ تعالى أعلمُ.
(1)
«العزيز شرح الوجيز» (12/ 182).