الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتابُ الجِنَايَات
الجِناياتُ في اللُّغةِ: جمعُ جِنايةٍ، وهي مَصْدَرُ جنى يَجْنِي إذا أَذْنَبَ، وتُطْلَقُ الجِنايةُ على التَّعدِّي على بَدَنٍ، أو عِرْضٍ، أو مالٍ.
وفي الاصطلاحِ: هي التَّعدِّي على البَدَنِ.
فالجِنايةُ في الاصطلاحِ أخصُّ منها في اللُّغةِ.
والأصلُ في تحريمِها قبْلَ الإجماعِ آياتٌ، منها قولُه تعالى:{وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
وأحاديثُ، منها حديثُ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:«اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبِقَاتِ» ، قالوا: يا رسولَ اللهِ وما هُنَّ؟ قالَ: «الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ المُؤْمِنَاتِ الغَافِلَاتِ»
(1)
.
والمُوبِقاتُ؛ أيِ: المُهلِكاتُ.
(1)
رواه البخاري (2615)، ومسلم (89).
قال أبو شجاع رحمه الله: «الْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ:
1 -
عَمْدٌ مَحْضٌ»، وهو أن يَقْصِدَ الجاني عينَ المجنيِّ عليه بما يَقْتُلُ غالبًا.
2 -
«وَخَطَأٌ مَحْضٌ» ، وهو إذا لم يَقصدِ الجاني عينَ المجنيِّ عليه.
3 -
«وَعَمْدٌ خَطَأٌ» ، وهو أن يَقْصِدَ الجاني عينَ المجنيِّ عليه بما لا يَقْتُلُ غالبًا.
قال أبو شجاع رحمه الله: «فَالْعَمْدُ الْمَحْضُ هُوَ: أَنْ يَعْمِدَ إِلَى ضَرْبِهِ بِمَا يَقْتُلُ غَالِبًا، وَيَقْصِدُ قَتْلَهُ بِذَلِكَ، فَيَجِبُ الْقَوَدُ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَجَبَتْ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ حَالَّةٌ فِي مَالِ الْقَاتِلِ» ، سَبَقَ أنَّ القتلَ العمدَ هو ما تَحَقَّقَ فيه أمْرانِ: قصدُ الشَّخصِ بالقتلِ، وأن تَكونَ وسيلةُ القتلِ مما يَقْتُلُ غالبًا، سواءٌ كانَ بجارحٍ كالسَّيفِ، أو بمثقلٍ كالحجرِ الكبيرِ، أو بغيرِهِما، وهذا النَّوعُ من القتلِ فيه القَوَدُ؛ أيِ: القِصاصُ -وهو المماثَلةُ بقتلِ القاتلِ- وسُمِّيَ قَوَدًا؛ لأنَّهم يَقودونَ الجانيَ إلى مَحَلِّ الاستيفاءِ، وإنَّما وَجَبَ القِصاصُ في القتلِ عمدًا؛ لأنَّه بَدَلُ مُتْلَفٍ فتَعَيَّنَ جنسُه كسائرِ المتلَفاتِ، قال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة: 178].
ولا فَرْقَ في وجوبِ القِصاصِ بيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ؛ لقولِه تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45].
والَّذي له حقُّ المطالَبةِ بالقِصاصِ أولياءُ الدَّمِ، وهم من يَرِثُ
المقتولَ، فإن عَفَوْا عن القاتلِ بدونِ مقابلٍ سَقَطَ القِصاصُ ولا دِيَةَ، وإن عَفَوْا على الدِّيَةِ وجبت دِيَةٌ مغلَّظةٌ حالَّةٌ في مالِ القاتلِ، وهي: مائةٌ من الإبِلِ: ثلاثون حِقَّةً، وثلاثون جَذَعَةً، وأربعون خَلِفَةً في بطونِها أولادُها؛ لحديثِ عمرِو بنِ شُعيبٍ عن أبيه عن جَدِّه رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:«مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا دُفِعَ إِلَى أَوْلِيَاءِ المَقْتُولِ، فَإِنْ شَاؤُوا قَتَلُوا، وَإِنْ شَاؤُوا أَخَذُوا الدِّيَةَ، وَهِيَ: ثَلَاثُونَ حِقَّةً، وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً، وَمَا صَالَحُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ، وَذَلِكَ لِتَشْدِيدِ العَقْلِ»
(1)
.
وتجبُ حالَّةً في مالِ القاتلِ تشديدًا عليه، يقولُ ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما:«لَا تَحْمِلُ العاقلةُ عمدًا، ولا صلحًا، ولا اعترافًا، ولا ما جنى المملوكُ»
(2)
.
وقال الزُّهْريُّ رحمه الله: «مضتِ السُّنَّةُ أنَّ العاقلةَ لا تَحْمِلُ شيئًا مِن دِيَةِ العمدِ؛ إلَّا أن يشاؤوا ذلك»
(3)
.
(1)
رواه أحمد (6717)، وأبو داود (4506)، والترمذي (1387)، وابن ماجه (2626)، وقال الترمذي:«حديثٌ حسنٌ غريب» ، والحقَّةُ من الإبلِ: هي ما لها ثلاثُ سنينَ ودخلت في الرَّابعةِ، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّها استحقَّت أن تُركَب ويُحمَلَ عليها، وقيلَ: لأنَّها استحقَّت أن يَطْرُقَها الفحلُ، والجَذَعةُ: ما لها أربعُ سنينَ ودخلت في الخامسةِ، وسُمِّيت جَذَعةً؛ لأنَّها تَجْذَعُ مقدَّمَ أسنانِها؛ أي: تُسقطُ أسنانَ اللَّبَنِ. والخَلِفةُ: هي الحاملُ التي في بطنِها ولدُها، و «صَالَحُوا عَلَيْهِ»؛ أيْ: رضُوا به واتَّفَقوا عليه، و «تَشْدِيدُ الْعَقْلِ»؛ أيْ: تغليظُ الدِّيةِ.
(2)
رواه البيهقيُّ في «السُّنن الكبرى» (16361)، والعاقلةُ: هي قبيلةُ الرَّجلِ وأقاربُه ممن يَستنصرُ بهم ويَستنصرونَ به.
(3)
رواه مالك في «الموطَّأ» (2527).
ولو عفا بعضُ أولياءِ الدَّمِ -سواءٌ كانَ العفوُ بدونِ مقابِلٍ، أو مقابِلَ الدِّيةِ- سَقَطَ القِصاصُ، وإن لم يَرْضَ البعضُ الآخَرُ؛ لأنَّ القِصاصَ لا يتجزَّأُ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَالْخَطَأُ الْمَحْضُ: أَنْ يَرْمِيَ إِلَى شَيْءٍ فَيُصِيبَ رَجُلًا فَيَقْتُلَهُ، فَلَا قَوَدَ، بَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ دِيَةٌ مُخَفَّفَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ» ، سَبَقَ أنَّ قتلَ الخطإِ هو أن يَقْصِدَ الفعلَ دونَ الشَّخصِ، كأن يرميَ إلى شجرةٍ أو إلى صيدٍ فيُصيبَ إنسانًا فيقتلَه، وهذا النَّوعُ من القتلِ لا قَوَدَ فيه؛ لقولِه تعالى:{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرٌ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]، فأَوْجَبَ الدِّيةَ، ولم يَتَعَرَّضْ للقِصاصِ.
وهذه الدِّيَةُ تَكونُ على العاقلةِ مخفَّفةً مؤجَّلةً إلى ثلاثِ سنواتٍ، وكونُها مخفَّفةً؛ فلأنَّها من خمسةِ أسنانٍ، كما جاءَ في حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنَّه قالَ:«دِيَةُ الخطإِ خمسةُ أخماسٍ: عِشرونَ حِقَّةً، وعِشروَن جَذَعَةً، وعِشرونَ بناتِ مَخاضٍ، وعِشرونَ بناتِ لَبُونٍ، وعِشروَن بَني لَبونٍ ذُكورٌ»
(1)
.
(1)
رواه الدَّارقطنيُّ (3362)، وقال:«إسنادُه حسنٌ، ورواتُه ثقاتٌ» ، وله حُكمُ الرَّفعِ إلى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّه من المقدَّراتِ، وهي ليست مما يقالُ بالرَّأيِ.
والحقَّةُ من الإبلِ: ما لها ثلاثُ سنينَ ودخلت في الرَّابعةِ، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّها استحقَّت أن تُركَبَ ويُحْمَلَ عليها، وقيلَ: لأنَّها استحقَّت أن يَطْرُقَها الفحلُ، والجَذَعةُ: ما لها أربعُ سنينَ ودخلت في الخامسةِ، وسُمِّيت جَذعةً؛ لأنَّها تجذعُ مُقَدَّمَ أسنانِها؛ أيْ: تُسقِطُ أسنانَ اللَّبَنِ، وبنتُ المخاضِ: ما لها سَنَةٌ ودخلت في الثَّانيةِ، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ أمَّها غالبًا صارت مخاضًا بأخرى؛ أي: حاملًا، والمخاضُ آلامُ الوِلادةِ، وبنتُ اللَّبونِ: ما لها سَنتانِ ودخلت في الثَّالثةِ، وسُمِّيت بذلك؛ لأنَّ أمَّها صار فيها لبنٌ غالبًا بولادةٍ أخرى.
وكونُها على العاقلةِ فلحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه قالَ: «اقتتلتِ امرأتانِ من هُذَيْلٍ، فرمتْ إحداهما الأخرى بحَجَرٍ فقتلتْها وما في بطنِها، فاختصمُوا إلى رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فقضى أنَّ دِيَةَ جنينِها غُرَّةٌ، عبدٌ أو وليدةٌ، وقضى بدِيَةِ المرأةِ على عاقلَتِها»
(1)
.
وهذا في قتلِ شِبْهِ العمدِ، فيكونُ في قتلِ الخطإِ من بابِ أَوْلى.
وكونُها مؤجَّلةً إلى ثلاثِ سنواتٍ فللإجماعِ على ذلك، قال التِّرمذيُّ رحمه الله:«أَجْمَعَ أهلُ العِلْمِ على أنَّ الدِّيةَ تؤخَذُ في ثلاثِ سنينَ، في كلِّ سنةٍ ثُلُثُ الدِّيةِ»
(2)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَعَمْدُ الْخَطَإِ أَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ بِمَا لَا يَقْتُلُ غَالِبًا فَيَمُوتَ، فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ، بَلْ تَجِبُ دِيَةٌ مُغَلَّظَةٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ» ، عمدُ الخطإِ يقالُ له: شِبْهُ العمدِ، وهو أن يَقصدَ الجاني ضربَ المجنيِّ عليه بما لا يَقْتُلُ غالبًا، كسَوْطٍ أو عصًا خفيفةٍ أو نحوِ ذلك فيموتَ بسببِه، وهذا النَّوعُ مِن القتلِ لا قَوَدَ فيه؛ لفقدِ الآلةِ القاتلةِ غالبًا، فموتُه بغيرِها مصادفةُ قَدَرٍ، وتجبُ دِيَةٌ مغلَّظةٌ على القاتلِ؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «عَقْلُ شِبْهِ الْعَمْدِ مُغَلَّظٌ مِثْلُ عَقْلِ الْعَمْدِ، وَلَا يُقْتَلُ
(1)
رواه البخاري (5426)، ومسلم (1681). والغُرَّةُ: بياضُ الوجهِ، عَبَّرَ به عن الجسمِ الذي يُدْفَعُ دِيةً عن الجنينِ إذا سَقَطَ ميِّتًا؛ إطلاقًا للجزءِ على الكلِّ. والوليدةُ؛ أي: الأمَةُ المملوكةُ.
(2)
«سنن الترمذي» (4/ 660).