الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلَيْهِ رَجُلَانِ»، وكذلك إذا أَقَرَّ هو على نفْسِه، فإنَّ الإقرارَ حُجَّةٌ تَقومُ مقامَ البيِّنةِ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَلَا يُحَدُّ بِالْقَيْءِ وَالاسْتِنْكَاهِ» ، القَيءُ معروفٌ، والاستنكاهُ: شمُّ رائحةِ الفمِ، ولا يُحَدُّ بذلك لاحتمالِ أن يَكونَ شرِبَه مخطئًا، أو مُكرَهًا، ولأنَّ رائحةَ الخمرِ قد يُشاركُها فيها غيرُها، وهذه الأمورُ تُورِثُ شُبْهَةً فِي تَعَدِّيهِ بِشُرْبِ المُسْكِرِ، والحدودُ تُدْرَأُ بالشُّبهاتِ، كما أَجْمَعَ على ذلك أهلُ العِلْمِ
(1)
.
«فَصْلٌ»
في حَدِّ السَّرِقَة
السَّرقةُ في اللُّغةِ: هي أخذُ الشَّيءِ من الغيرِ خُفْيَةً، ومنه قولُه تعالى:{اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 12]؛ أيْ: سَمِعَ مُسْتَخْفِيًا.
وفي الاصطلاحِ: أخذُ مالِ الغيرِ خُفْيةً، وإخراجُه من حِرْزٍ.
والسَّرقِة محرَّمةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ، قال تعالى:{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة: 38].
وفي حديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «لَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ»
(2)
.
(1)
«الإجماع» لابن المنذر (ص: 125).
(2)
رواه البخاري (5256)، ومسلم (57)، والمرادُ: أنَّ اللهَ «سَلَبَه حقيقةَ الإيمانِ التي بها يَسْتَحِقُّ حصولَ الثَّوابِ والنَّجاةِ من العِقابِ؛ وإن كان معه أصلُ الإيمانِ الذي يفارقُ به الكفَّارَ ويخرجُ به من النَّارِ» ، كما في «مجموع فتاوى ابنِ تيمية» (28/ 72).
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَتُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ بِثَلَاثَةِ شَرَائِطَ:
1، 2 - أَنْ يَكونَ بَالِغًا عَاقِلًا»، يُشْتَرَطُ في قطعِ يدِ السَّارقِ أن يَكونَ بالغًا عاقلًا، فلا تُقْطَعُ يَدُ صَبِيٍّ ولا مجنونٍ؛ لحديثِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:«رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يُفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»
(1)
.
لكنَّهما يُعَزَّرانِ إذا كانَ لهما نوعُ تمييزٍ بما يَزْجُرُهما.
3 -
«وَأَنْ يَسْرِقَ نِصَابًا قِيمَتُهُ رُبُعُ دِينَارٍ مِنْ حِرْزِ مِثْلِهِ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ وَلَا شُبْهَةَ فِي مَالِ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ» ، يُشْتَرَطُ في قطعِ يدِ السَّارقِ أن يَسْرِقَ نِصابًا قِيمتُه رُبُعُ دينارٍ؛ لحديثِ عائشةَ رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ:«لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلَّا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»
(2)
.
والدِّينارُ يساوي أربعَ جراماتٍ ورُبُعًا من الذَّهبِ.
وكذلك يُشْتَرَطُ أن يَكونَ المالُ المسروقُ في حِرْزٍ؛ لحديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو رضي الله عنهما أنَّ رَجلًا من مُزَيْنَةَ سألَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الثِّمارِ، فقالَ: «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ، وَمَنْ سَرَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يُؤْوِيَهُ الْجَرِينُ فَبَلَغَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ فَعَلَيْهِ
(1)
رواه أبو داود (4401)، وابن خزيمة (1003)، وابن حبَّان (143)، والحاكم (949)، وصحَّحه، وأقرَّه الذَّهبي.
(2)
رواه البخاري (4607)، ومسلم (1684).
الْقَطْعُ»، فقالَ: الشَّاةُ الحَريسةُ منهنَّ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: «ثَمَنُهَا وَمِثْلُهُ مَعَهُ وَالنَّكَالُ، وَمَا كَانَ فِي الْمُرَاحِ، فَفِيهِ الْقَطْعُ، إِذَا كَانَ مَا يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ ثَمَنَ الْمِجَنِّ»
(1)
.
وذلك لأنَّ الجنايةَ تَعْظُمُ بمخاطَرةِ أخذِه من الحِرْزِ؛ بخلافِ ما إذا جرَّأه المالكُ ومكَّنه بتضييعِه.
والرُّجوعُ في الحِرزِ يَكونُ إلى العُرْفِ؛ فإنَّه لم يُحَدَّ في الشَّرعِ ولا في اللُّغةِ، فرُجِعَ فيه إلى العُرْفِ، وهو يَختلفُ باختلافِ الأموالِ والأحوالِ والأوقاتِ، فقد يَكونُ الشَّيءُ حِرزًا في وقتٍ دونَ وقتٍ؛ بحسَبِ صلاحِ أحوالِ النَّاسِ وفَسادِها، وقوَّةِ السُّلطانِ وضَعْفِه، وضَبَطَه الغزاليُّ رحمه الله بما لا يُعَدُّ صاحبُه مُضَيِّعًا.
وكذلك يُشترطُ في قطعِ يدِ السَّارقِ عَدَمُ المِلْكِ، فلا قَطْعَ بسرقةِ مالِه الذي بيدِ غيرِه؛ وإن كانَ مرهونًا أو مؤجَّرًا.
وكذلك يُشترطُ في قطعِ يدِ السَّارقِ عدمُ شبهةِ المِلكِ في المالِ المسروقِ، فلو سَرَقَ الوالدُ من ولدِه، أو الولدُ من والدِه؛ فلا قَطْعَ، لشبهةِ المِلكِ باستحقاقِ النَّفقةِ، وكذلك لو سَرَقَ الشَّريكُ من مالِ الشَّركةِ، فلا قَطْعَ عليه.
(1)
رواه أبو داود (1710)، والترمذي (1289)، والنسائي (4957)، وابن ماجه (2596)، وقال الترمذي:«هذا حديثٌ حسنٌ» ، و «الخبنةُ»: هي ما يَحْمِلُه الرَّجلُ في ثوبِه، و «العقوبَةُ» هنا هي التَّعزيرُ، و «الجَرِينُ»: هو ما يُحْفَظُ فيه الحبوبُ والثِّمارُ، و «المِجَنُّ» هو كلُّ ما يُتَوَقَّى به ويُسْتَتَرُ مِن ضربةِ السِّلاحِ، كالتُّرسِ، وكانت قِيمتُه تُقَدَّرُ برُبُعِ دينارٍ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَتُقْطَعُ يَدُهُ الْيُمْنَى مِنْ مَفْصِلِ الْكُوعِ، فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ ثَالِثًا قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُسْرَى، فَإِنْ سَرَقَ رَابِعًا قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُمْنَى» ، تُقْطعُ يدُ السَّارقِ اليُمنى من مَفْصِلِ الكوعِ، وهو العظمُ النَّاتئُ ممَّا يلي الإبهامَ، في مَفْصِلِ الكفِّ مع السَّاعدِ، فإن سَرَقَ ثانيًا قُطِعَتْ رِجْلُه اليُسرى مِن مَفْصِلِ السَّاقِ مع القَدَمِ؛ لحديثِ عليٍّ رضي الله عنه قالَ:«إذا سَرَقَ السَّارقُ قُطِعَتْ يدُه اليُمنى، فإن عادَ قُطِعَت رِجْلُه اليُسرى»
(1)
.
فإن سَرَقَ ثالثًا قُطِعَتْ يدُه اليُسرى، فإن سَرَقَ رابعًا قُطِعَتْ رِجْلُه اليُمنى؛ لحديثِ أبي هريرةَ رضي الله عنه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال في السَّارقِ:«إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ إِنْ سَرَقَ فَاقْطَعُوا رِجْلَهُ»
(2)
.
وذُكِرَ عن عبدِ الرَّحمنِ بنِ القاسمِ بنِ محمَّد بن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه، عن أبيه أنَّ رَجلًا من أهلِ اليَمنِ أَقْطَعَ اليدِ والرِّجْلِ قَدِمَ فَنَزَلَ على أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ فشكا إليه أنَّ عاملَ اليَمنِ قد ظَلَمَه، وكانَ يصلِّي من اللَّيلِ، فيقولُ أبو بكرٍ:«وأبيك ما ليلُك بليلِ سارقٍ» ، ثمَّ إنَّهم فقدُوا عِقدًا لأسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ امرأةِ أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، فجَعَلَ الرَّجُلُ يَطوفُ معهم، ويقولُ: اللَّهمَّ عليك بمن بَيَّتَ أهلَ هذا البيتِ الصَّالحِ، ثمَّ وجدوا العِقدَ عندَ صائغٍ زَعَمَ أنَّ الأقطعَ جاءه به، فاعْتَرَفَ به الأقطعُ، فأمرَ به أبو بكرٍ فقُطِعَتْ يدُه