الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اليُسرى، وكانَ أبو بكرٍ رضي الله عنه يقولُ:«واللهِ لدعاؤُه على نفْسِه أشدُّ عندي عليه من سَرِقَتِه»
(1)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «فَإِنْ سَرَقَ بَعْدَ ذَلِكَ عُزِّرَ، وَقِيلَ يُقْتَلُ صَبْرًا» ، القتلُ صَبْرًا: هو أن يُحْبَسَ من أجلِ أن يُقْتَلَ -ولو يومًا واحدًا- فإذا سَرَقَ سارقٌ بعدَ المَرَّةِ الرَّابعةِ عُزِّرَ بما يراه الحاكمُ رادعًا له؛ من ضربٍ أو سَجنٍ أو نفيٍ، وقيلَ: يُقْتَلُ؛ لحديثِ جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بسارقٍ فأمَرَ بقطعِ يدِه، ثمَّ أُتِيَ به قد سَرَقَ فأَمَرَ بقطعِ رِجْلِه، ثمَّ أُتِيَ به بعدُ وقد سَرَقَ فأمَرَ بقطعِ يدِه اليُسرى، ثمَّ أُتِيَ به قد سَرَقَ فأَمَرَ بقطعِ رِجْلِه اليُمنى، ثمَّ أُتِيَ به قد سَرَقَ فأمَرَ بقتلِه»
(2)
.
«فَصْلٌ»
في حَدِّ الحِرابة
الحِرَابَةُ في اللُّغةِ: مأخوذةٌ من الحربِ، وهي نقيضُ السِّلْمِ.
وفي الاصطلاحِ: قطعُ الطَّريقِ لأخذِ مالٍ أو لقتلٍ أو لإرعابٍ مكابَرةً واعتمادًا على القوَّةِ مع البعدِ عن الغَوثِ.
(1)
رواه مالكٌ في «الموطَّأ» (2418)، والشَّافعيُّ في «الأم» (6/ 162)، وقولُ الرَّجلِ: إنَّ عاملَ اليمنِ ظَلَمَه؛ أي: بقطعِ يدِه ورِجْلِه بتهمةِ السَّرقةِ، وقولُه: بَيَّتَ؛ أيْ: أغارَ ليلًا.
(2)
رواه أبو داود (4410)، والنسائي (4978)، والبيهقيُّ في «السُّنن الكبرى» (17037)، واللَّفظُ له، وقال النَّسائيُّ:«هذا حديثٌ منكَرٌ» ، وبما أنَّ الحديثَ منكرٌ فيتعيَّنُ التَّعزيرُ، واللهُ أعلم.
والحِرابةُ من كبائرِ الذُّنوبِ، وقد غَلَّظَ اللهُ عقوبتَها أشدَّ التَّغليظِ، فقال تعالى:{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33].
وفي الصَّحيحينِ عن أبي قِلابةَ أنَّ أنسَ بنَ مالكٍ رضي الله عنه قالَ: «قَدِمَ أُناسٌ مِن عُرَيْنَةَ على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وتَكَلَّموا بالإسلامِ فقالوا: يا نبيَّ اللهِ، إنَّا كُنَّا أهلَ ضَرعٍ، ولم نَكنْ أهلَ رِيفٍ، واجتوَوُا المدينةَ، فأَمَرَ لهم رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذَودٍ وراعٍ، وأمَرَهم أن يَخْرُجُوا فيه، فَيَشْرَبُوا مِن ألبانِها وأبْوَالِها، فانطلَقوا حتَّى إذا كانوا ناحيةَ الحَرَّةِ كَفَروا بعدَ إسلامِهم، وقَتَلُوا رَاعيَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، واستاقُوا الذَّودَ، فَبَلغَ ذلك النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فبَعَثَ الطَّلبَ في آثارِهم، فأُتيَ بهم، فقَطَعَ أيديَهم، وأرجُلَهم، وسَمَلَ أعينَهم، وتركَهم في الحَرَّةِ، حتَّى ماتوا» ، قال أبو قِلابةَ رحمه الله: فهؤلاء قَومٌ سَرقوا وقَتَلُوا، وكفَروا بعدَ إيمانِهم، وحارَبُوا اللهَ ورسولَه
(1)
.
(1)
رواه البخاري (231)، ومسلم (1671). والنَّفرُ: عِدَّةُ رجالٍ دونَ العشَرةِ، وجاءَ في «مستخرَج أبي عَوانةَ» (6099)؛ أنَّهم كانوا ثمانيةً، وأهلُ الضَّرعِ: أهلُ الماشيةِ والباديةِ، وليسوا من أهل المدنِ والحضرِ، وإنَّما عيشُهم من اللَّبَنِ، والرِّيفُ: أرضٌ فيها زرعٌ وخصبٌ، والجمعُ: أريافٌ، واجتَووا: استوخموا، يُقالُ: اجتوى موضعَ كذا؛ استوخَمه وكَرِهَ المُقامَ فيه، وهو افتعلَ من الجَوى، وهو الألمُ في الجوفِ، والذَّودُ من الإبلِ: من الثَّلاثةِ إلى العشَرةِ. والحَرَّةُ: أرضٌ ذاتُ حجارةٍ سودٍ، وهي ههنا اسمٌ لأرضٍ بالمدينةِ معروفةٍ، وسَمَلَ أعينَهم فقأَها بحديدةٍ محماةٍ.
وقال أنسٌ رضي الله عنه: «إنَّما سَمَلَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ أولئكَ؛ لأنَّهم سَمَلُوا أعينَ الرِّعاء»
(1)
.
وقال -أيضًا- رضي الله عنه: «فأمَرَ بمساميرَ فأُحميتْ، فكحَلَهُمْ، وقَطَعَ أيْديَهُم وأرجلَهُمْ، وما حَسَمَهُمْ»
(2)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
1 -
إِنْ قَتَلُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ قُتِلُوا»، حتى ولو عفَا أهلُ المقتولِ، وذلك لدفعِ شرِّهم، ولأنَّ عقوبةَ المحاربِ حقٌّ للهِ تعالى، لا تَقْبَلُ الإسقاطَ ولا العفوَ.
2 -
«فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قُتِلُوا وَصُلِبُوا» ؛ وذلك زيادةً في التَّنكيلِ بهم، وزجرًا لغيرِهم، ويكونُ صَلْبُهم بعدَ تغسيلِهم وتكفينِهم والصَّلاةِ عليهم، ويُصْلَبُونَ على خشبةٍ أو نحوِها ثلاثةَ أيَّامٍ؛ ليشتهرَ حالُهم، وهذا إذا لم يُخَفِ التَّغيُّرُ، فإن خِيفَ قبلَ الثَّلاثةِ أُنِزلُوا، كما قال الخطيبُ الشِّربينيُّ رحمه الله
(3)
.
3 -
«وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلُوا تُقْطَعُ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ» ، وذلك بأن تُقْطَعَ اليدُ اليُمنى والرِّجلُ اليُسرى، فإن عادوا وأَخذوا ما يساوي رُبُعَ دينارٍ فصاعدًا بعدَ قَطْعِهِما ثانيًا قُطِعَت اليدُ اليُسرى والرِّجلُ اليُمنى، وإنَّما قُطِعَ من خِلافٍ لما مرَّ في السَّرقةِ،
(1)
رواه مسلم (1671).
(2)
رواه البخاري (6419). والحسمُ: هو إذا قُطِعَت اليدُ، أو الرِّجلُ كُوِيَتْ؛ لينقطعَ الدَّمُ.
(3)
«الإقناع في حلِّ ألفاظ أبي شجاع» (2/ 542).
وقُطِعَت اليدُ اليُمنى للسَّرقةِ، والرِّجلُ للمحارَبةِ.
4 -
«فَإِنْ أَخَافُوا السَّبِيلَ وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا وَلَمْ يَقْتُلُوا حُبِسُوا وَعُزِّرُوا» ، إن أخافَ المحاربِونَ السَّبيلَ -أي: الطَّريقَ- بوقوفِهم فيه، ولم يأخذوا مالًا من المارَّةِ، ولم يَقْتُلُوا منهم أَحدًا حُبِسوا في غيرِ موضِعهم؛ لأنَّه أحوطُ وأبلغُ في الزَّجرِ والإيحاشِ، وعُزِّروا بما يراه الإمامُ من ضربٍ وغيرِه لارتكابِهِم معصيةً لا حَدَّ فيها ولا كفَّارةَ، وعَطْفُ المُصَنِّفِ رحمه الله التَّعزيرَ على الحبسِ هو من عطفِ العامِّ على الخاصِّ؛ إذ الحبسُ من جنسِ التَّعزيرِ.
ودليلُ جميعِ ما سَبَقَ؛ قولُه تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33].
قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله عنهما: «إذا قَتَلوا وأخذوا المالَ قُتِلُوا وصُلِبُوا، وإذا قَتَلُوا ولم يأخذوا المالَ قُتِلُوا ولم يُصْلَبوا، وإذا أخذوا المالَ ولم يَقْتُلُوا قُطِعَتْ أيديهم وأرجُلُهم من خلافٍ وإذا أخافوا السَّبيلَ ولم يأخذوا مالًا نُفُوا من الأرضِ
(1)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَمَنْ تَابَ مِنْهُمْ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ وَأُخِذَ بِالْحُقُوقِ» ؛ أيْ: إنَّ من تابَ من قطَّاعِ الطُّرقِ قبلَ القدرةِ عليه سَقَطَتْ عنه العقوباتُ المختصَّةُ بقطَّاعِ الطَّريقِ؛ لقولِه تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلمُوا أَنَّ
(1)
رواه الشَّافعيُّ في «مسنده» (282).