الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَتَصَرُّفُ الْمَرِيضِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَوْقُوفٌ عَلَى إِجَازَةِ الْوَرَثَةِ مِنْ بَعْدِهِ» ، فإنْ أجازُوا الزائدَ على الثُّلثِ صحَّ؛ وإلَّا فلا، وإجازةُ الورثةِ حالَ المرضِ لا تُعْتَبَر، وإنَّما تعتبرُ بعدَ موتِ المريضِ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَتَصَرُّفُ الْعَبْدِ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ يُتْبَعُ بِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ» ، تصرُّف العبدِ بغيرِ إذنِ سيدِه فيما يتوقفُ على إذنٍ؛ كالبيعِ والشِّراءِ ونحوِ ذلكَ يكونُ في ذمَّتِه؛ فيستردُّه البائعُ سواءٌ كان في يدِ العبدِ أو في يدِ سيدِه، فإنْ تلفَ في يدِ العبدِ فإنَّه يكونُ في ذمَّتِه يُتبعُ به إذا عتقَ؛ لثبوتِه برضَا مالكِه وعدمِ إذنِ السَّيدِ فيه.
«فَصْلٌ»
في الصُّلح
الصُّلحُ في اللُّغةِ: قطعُ النزاعِ والتوفيقُ بينَ الخصومِ.
وفي الاصطلاحِ: عقدٌ يحصلُ به التوفيقُ ورفعُ النزاعِ.
والصلحَ في الشَّريعةِ يجرِي في خمسةِ أنواعٍ:
الأول: صلحٌ بينَ المسلمينَ والكفارِ، قال تعالى:{وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ} [الأنفال: 61].
الثَّاني: صلحٌ بينَ أهلِ العدلِ من المسلمينَ وأهلِ البغيِ منهم، قال تعالى:{وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9].
الثَّالث: صلحٌ بينَ الزوجينِ عندَ حصولِ النزاعِ بينهما، قال
تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا} [النساء: 128].
الرابع: صلحٌ بينَ المتخاصمَينِ في الأمورِ غيرِ الماليَّةِ، وليس منهم بغاةٌ، كما في حديثِ سهلِ بنِ سعدٍ رضي الله عنه أنَّ أهلَ قُبَاءٍ اقتتلوا حتى تَرامَوْا بالحجارةِ، فأُخْبِرَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بذلك فقال:«اذْهَبُوا بِنَا نُصْلِحُ بَيْنَهُمْ»
(1)
.
الخامس: صلحٌ في المعاملاتِ الماليَّةِ، وهو المقصودُ في هذا الفصلِ، وهو مرادُ الفقهاءِ عندَ عنونتِهم لـ «الصلحِ» .
والأصلُ في مشروعيَّتِه من الكتابِ قولُه تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128].
ومِنَ السُّنَّةِ حديثُ عمرِو بنِ عوفٍ المُزَنِيِّ رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»
(2)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيَصِحُّ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا أَفْضَى إِلَيْهَا» ، الصلحُ مع الإقرارِ جائزٌ؛ بخلافِ الصُّلحِ مع الإنكارِ، فإنَّه يكونُ باطلًا؛ لأنَّ المدَّعِيَ إنْ كان كاذبًا فقد
(1)
رواه البخاري (2547).
(2)
رواه الترمذي (1352)، وابن ماجه (2353)، وقال الترمذي:«هذا حديث حسن صحيح» .
استحلَّ مالَ المدَّعَى عليه بهذا الصلحِ؛ وهو حرامٌ، وإنْ كان صادقًا فقد حرَّم على نفسِه بعضَ مالِه الحلالِ؛ لأنَّه يستحقُّ جميعَ ما يدَّعِيه لا بعضَه، فدخلَ في قولِه صلى الله عليه وسلم:«إِلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا»
(1)
.
فإذا أقرَّ المُدَّعَى عليه بالمُدَّعَى به في الأموالِ، أو ما أفضَى إليها؛ كمَن ثبتَ له على شخصٍ قِصاصٌ، فصالَحَه عليه على مالٍ؛ فإنَّه يصحُّ فيه الصلحُ، أمَّا ما لا يؤولُ إلى مالٍ؛ كحدِّ القذْفِ -مثلًا- فلا يصحُّ الصلحُ عليه بِعِوَضٍ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَهُوَ نَوْعَانِ: إِبْرَاءٌ، وَمُعَاوَضَةٌ» ؛ أي: الصُّلحُ فِي المعاملاتِ الماليَّةِ ينقسمُ إلى هذين النَّوْعَيْن؛ الإبراء والمعاوضة.
قال أبو شجاع رحمه الله: «فَالْإِبْرَاءُ: اقْتِصَارُهُ مِنْ حَقِّهِ عَلَى بَعْضِهِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ عَلَى شَرْطٍ» ، هذا هو النَّوعُ الأولُ من أنواعِ الصُّلحِ في المعاملاتِ الماليَّةِ، ويُسمَّى «صلحَ الحَطِيطَةِ» ، وهو إسقاطُ الدَّائنِ عن المَدِينِ بعضَ دَيْنِه، كأنْ يقولَ الدَّائنُ للمدينِ -مثلًا-: صالحتُك في «الألْفِ» الذي عليك لي على «خمسِمائةٍ» ، ودليلُ صحَّتِه حديثُ كعبِ بنِ مالكٍ رضي الله عنه عندما طلبَ من عبدِ اللهِ بنِ أبي حدردٍ رضي الله عنه دينًا له عليه، فارتفعت أصواتُهما في المسجدِ حتى سمِعَهما النبيُّ صلى الله عليه وسلم وهو في بيتِه، فخرج إليهما، ونادَى:«يَا كَعْبُ» ، فقال: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، فأشارَ بيدِه أنْ ضَعِ الشَّطرَ مِن دَيْنِك،
(1)
المصدر السابق.
فقال: قد فعلتُ يا رسولَ اللهِ، فقال صلى الله عليه وسلم:«قُمْ فَاقْضِهِ»
(1)
.
ويصحُّ بلفظِ الإبراءِ، والحطِّ، والإسقاطِ، ونحوِ ذلك؛ كـ «أبرأتُك من خمسِمائةٍ من الألفِ الذي لي عليك» ، أو «حطَطْتُها عنك» ، أو «أسقَطْتُها عنك» ، ولا يصحُّ بلفظِ البيعِ؛ كأنْ يقولَ:«بعتُكَ الألفَ بخمسِمائةٍ» ، كما أنَّه لا يصحُّ تعليقُه على شرطٍ؛ كأنْ يقولَ:«أبرأتُك على أنْ تؤجِّرَني دارَك» ، أو «أبرأتُك على أنْ تُعِيرَني دابتَك» ؛ بل لا بدَّ أنْ يكونَ مُنجَّزًا؛ لأنَّ في الإبراءِ معنى التَّمليكِ، والتَّمليكاتُ لا تقبلُ التَّعليقَ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَالْمُعَاوَضَةُ: عُدُولُهُ عَنْ حَقِّهِ إِلَى غَيْرِهِ، وَيَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْبَيْعِ» ، هذا هو النَّوعُ الثَّاني من أنواعِ الصُّلحِ في المعاملاتِ الماليَّةِ، وهو صلحُ المعاوضةِ، وهو الذي يجرِي على غيرِ العينِ المُدَّعاةِ، كما إذا ادَّعى رجلٌ على آخرَ دارًا فأقرَّ له بها، ثمَّ صالَحَه منها على قطعةِ أرضٍ أو دابَّةٍ، وهذا النَّوعُ من الصُّلحِ حكمُه حكمُ البيعِ، وتتعلقُ به جميعُ أحكامِ البيعِ، من ثبوتِ خيارِ المجلسِ والشَّرطِ، والردِّ بالعيوبِ، وغيرِ ذلك، وإنَّما جرتْ عليه أحكامُ البيعِ؛ لأنَّ هذا النَّوعَ من الصُّلحِ بيعٌ للعينِ المُدَّعاةِ مِن المُدَّعِي للمُدَّعَى عليه بلفظِ الصُّلحِ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُشْرِعَ رَوْشَنًا فِي طَرِيقٍ نَافِذٍ بِحَيْثُ لَا يَتَضَرَّرُ الْمَارُّ بِهِ» ، الرَّوشَنُ: هو الجزءُ الممتدُّ مِن السَّقْفِ فوقَ الجدارِ، الخارجُ عنه إلى الطَّريقِ، والذي يُطِلُّ
(1)
رواه البخاري (445)، ومسلم (1558).
على ما حولَه، سواءً كان من الخشبِ أو الحجَرِ؛ والطريقُ النافذُ هو المفتوحُ من الجانبينِ، يدخلُ النَّاسُ من بدايتِه ويخرجُون من نهايتِه، والطَّريقُ غيرُ النَّافذِ هو المفتوحُ من جهةٍ واحدةٍ، ومسدودٌ من الجهةِ الأُخرَى فلا يستطيعُ المارُّ أنْ يخرجَ منه؛ لأنَّه مغلقٌ.
والأصلُ في جوازِ إشْراعِ الرَّوْشَنِ في الطريقِ النَّافذِ حديثُ هشامِ بنِ سعدٍ، عن عبيدِ اللهِ بنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّه قال:«كان للعباسِ ميزابٌ على طريقِ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه، فَلَبِسَ عُمَرُ ثِيابَه يومَ الجُمُعَة، وقد كان ذُبِحَ للعباسِ فَرْخانِ، فلمَّا وافَى الميزابَ، صُبَّ ماءٌ بدمِ الفرخينِ، فأصابَ عمرَ وفيه دمُ الفرخَينِ، فأمرَ عمرُ بِقَلْعِهِ، ثمَّ رجعَ عمرُ، فطرحَ ثيابَه، ولبس ثيابًا غيرَ ثيابِه، ثمَّ جاء فصلَّى بالنَّاسِ، فأتاه العباسُ، فقال: واللهِ إنَّه لَلْمَوْضِعُ الذي وضعَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، فقال عمرُ للعباسِ: وأنا أَعْزِمُ عليك لمَا صعِدْتَ على ظَهْرِي حتَّى تضعَه في الموضِعِ الذي وضَعهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ففعلَ ذلك العباسُ رضي الله عنه»
(1)
.
فلمَّا ورد النصُّ في الميزابِ قِيسَ عليه غيرُه.
وعليه فيجوزُ للمسلمِ الانتفاعُ بذلك إذا كان في طريقٍ نافذٍ بين الدورِ والمساكنِ، بشرطِ ألَّا يتضررَ النَّاسُ منه، فَيُرْفَعُ بحيثُ يمرُّ المارُّ من تحتِه مُنْتَصِبًا وعلى رأسِه الحُمُولَةُ المعتادةُ من غيرِ احتياجٍ إلى طأطأةِ رأسِه، وإنْ كان الطريقُ النافذُ مَمَرَّ فُرسَانٍ
(1)
رواه أحمد (1790)، وقال الهيثمي في «المجمع» (4/ 374):«رواه أحمد ورجاله ثقات؛ إلَّا أن هشام بن سعد لم يسمعْ من عبيد الله» .
وقوافِلَ فَيُرْفعُ الرَّوشنُ بحيثُ يمرُّ من تحتِه المَحْمِلُ على البعيرِ مع أخشابِ المِظَلَّةِ الكائنةِ فوقَ المَحْمِل
(1)
.
فإن أخلَّ صاحبُ الرَّوشنِ بشيءٍ من ذلك فللمتضرِّرِينَ المطالبةُ بإزالتِه؛ وعلى الحاكمِ هدمُه؛ لحديثِ ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»
(2)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَلَا يَجُوزُ فِي الدَّرْبِ الْمُشْتَرَكِ إِلَّا بِإِذْنِ الشُّرَكَاءِ» ، المقصودُ بـ «الدربِ المشتركِ» الطريقُ غيرُ النافذِ، وهو المسدودُ من آخرِه -كما سبقَ- ويُقالُ له:«الزُّقاقُ» ، وهذا الطريقُ يكونُ مِلْكًا لأهلِه، فلا يجوزُ لغيرِهِم التَّصَرُّفُ فيه إلَّا برضاهم؛ لأنَّه مِلْكُهُم، فأشبَه الدُّورَ، وأهلُه مَنْ لهم حقُّ المرورِ فيه إلى مِلْكِهِم؛ من دارٍ، أو بئرٍ، أو فُرْنٍ، أو حانوتٍ؛ أمَّا البناءُ فيه وإخراجُ رَوْشَنٍ أو نحوِه فلا يجوزُ لأحدٍ منهم إلَّا برضَا الباقينَ؛ كسائرِ الأملاكِ المشتركةِ.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ الْبَابِ فِي الدَّرْبِ الْمُشْتَرَكِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ إِلَّا بِإِذْنِ الشُّرَكَاءِ» ، الدَّربُ المشتركُ مِلْكٌ لأهلِه، ويستحقُّ كلُّ واحدٍ من بابِ دارِه إلى رأسِ الدَّربِ؛ أي: إلى آخِرِ الطريقِ من الجهةِ المفتوحةِ، دونَ ما يلي آخرَ الدربِ
(1)
المَحْمِلُ: الهودجُ الكبيرُ.
(2)
رواه أحمد (2867)، وابن ماجه (2341)، وللحديثِ طرقٌ وشواهدُ كثيرةٌ تصلُ به إلى درجةِ الصحَّة؛ كما قال ابنُ دقيقِ العِيد رحمه الله في «الإلمام بأحاديث الأحكام» (ص: 237).