الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لزِمه الضمانُ؛ لأنَّه جنايةٌ على مالِ الغيرِ؛ فلزِمه ضمانُه.
«فَصْلٌ»
في الجعَالَة
الجَعالةُ في اللُّغةِ: بفتحِ الجيمِ وكسرِها وضمِّها، وهي اسمٌ لما يجعلُه الإنسانُ لغيرِه على شيءٍ يفعلُه، ويُقالُ لها: جُعْلٌ وجَعِيلة.
وفي الاصطلاحِ: هي التزامُ عوضٍ معلومٍ على عملٍ معينٍ معلومٍ أو مجهولٍ، بمعينٍ أو مجهولٍ.
أي: يحصلُ هذا العملُ من عاملٍ معينٍ أو مجهولٍ، كأنْ يقولَ شخصٌ: مَن ردَّ علي دابتِي فله كذا، ولا يعرفُ مَن يقومُ بردِّها.
فلا يشترطُ في العملِ لاستحقاقِ الجُعلِ أنْ يكونَ العملُ معلومًا كما في الإجارةِ، التي لا بدَّ من أنْ تحدَّدَ بزمنٍ أو عملٍ، فتصحُّ الجعالةُ ولو كان العملُ مجهولًا؛ أي: غيرَ محدَّدٍ بفعلٍ أو زمنٍ، نحوُ: ردِّ ضالةٍ، أو تعليمِ صبيٍّ، أو معالجةِ مريضٍ، ونحوِ ذلك، فقد يستغرقُ ردُّ الضالَّةِ أو تعليمُ الصبيِّ أو معالجةُ المريضِ زمنًا طويلًا، وقد يستغرقُ وقتًا قصيرًا، وقد يكلِّفُه الكثيرَ من الجهدِ وقد لا يكلِّفُه، فكلُّ ذلك جهالةٌ في العملِ، وهي مغتفرةٌ للحاجةِ إلى ذلك.
والأصلُ في مشروعيتِها من الكتابِ قولُه تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ
صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72]، فجعل لمن يأتيه بـ «صواع الملك» ، «حمل بعير» ؛ جائزةً له، وكان حملُ البعيرِ معلومًا عندهم كالْوَسْقِ، وشَرْعُ مَن قَبْلَنا شرعٌ لنا؛ ما لم يَرِدْ في شَرْعِنا ما يُخالِفُه.
ومن السنة حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَتَوْا عَلَى حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَقْرُوهُمْ فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ لُدِغَ سَيِّدُ أُولَئِكَ، فَقَالُوا: هَلْ فِيكُمْ دَوَاءٌ أَوْ رَاقٍ؟ فَقَالُوا: إِنَّكُمْ لَمْ تَقْرُونَا، وَلَا نَفْعَلُ حَتَّى تَجْعَلُوا لَنَا جُعْلًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ قَطِيعًا مِنَ الشَّاءٍ، فَجَعَلَ يَقْرَأُ بأُمِّ الْقُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ وَيَتْفُلُ، فَبَرَأَ، فَأَتَوْهُمْ بِالشَّاءِ، فَقَالُوا: لَا نَأْخُذُهُ حَتَّى نَسْأَلَ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلُوه فَضَحِكَ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ:«وَمَا أَدْرَاكَ أَنَّهَا رُقْيَةٌ؟ خُذُوهَا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ»
(1)
.
قال أبو شجاع رحمه الله: «وَالْجَعَالَةُ جَائِزَةٌ وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي رَدِّهِ ضَالَّتَهُ عِوَضًا مَعْلُومًا، فَإِذَا رَدَّهَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ الْعِوَضَ الْمَشْرُوطَ» ، الجعالةُ عقدٌ جائزٌ، غيرُ لازمٍ، بل هو قابلٌ للفسخِ من صاحبِ العملِ متى شاءَ، كما أنَّ للعاملِ أنْ يرجعَ عن عملِه متى شاء، رضِي الطَّرفُ الآخرُ أو لم يرضَ، وذلك لأنَّها عقدٌ على عملٍ مجهولٍ بعوضٍ، فجاز لكلِّ واحدٍ من المتعاقدَين فسخُه، فإن فسخَه العاملُ لم يستحقَّ شيئًا، ولو قام بشيءٍ من العملِ؛ لأنَّه لا
(1)
رواه البخاري (5404)، ومسلم (2201)، وقوله صلى الله عليه وسلم:«اضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ» ؛ أي: اجعلوا لي نصيبًا.
يستحقُّ الجُعْلَ إلَّا بالفراغِ من العملِ، وقد ترَكه، فسقطَ حقُّه، وإنْ فسخَه صاحبُ العملِ فله حالانِ:
الأول: أنْ يكونَ قبلَ الشُّروعِ في العملِ فلا يلزمُه شيءٌ؛ لأنَّه فسخَه قبلَ أنْ يستهلكَ شيئًا من منفعةِ العاملِ، فلا يلزمُه شيءٌ.
الثَّاني: أنْ يكونَ بعدَ الشُّروعِ في العملِ فلزِمَه أجرةُ المثْلِ لما عمِلَ؛ لأنَّه استهلك شيئًا من منفعتِه بشرطِ العوضِ، فلزمتْه أُجرتُه.
ولا يستحقُّ العاملُ الجُعْلَ إلا بإذنِ صاحبِ العملِ، كأنْ يقولَ صاحبُ العملِ: مَن وَجَدَ لي ضالَّتي الفلانيَّةَ فله كذا، فإذا عمِلَ العاملُ بدونِ إذنٍ لم يستحقَّ شيئًا، كما إذا وجدَ إنسانٌ ضالةً لآخرَ فردَّها عليه، أو علَّم وَلَدَهُ دونَ إذنٍ منه؛ لأنَّه بذلَ منفعتَه من غيرِ عوضٍ، فلم يستحقَّه، فإنْ أَذِن له بالعملِ ولم يَشْرِطْ له جُعلًا، فلا يستحقُّ شيئًا -أيضًا-.
وإنْ أَذِن لشخصٍ بالعملِ، فعمِلَ غيرُه فلا شيءَ له، وإنْ كان معروفًا بالقيامِ بهذا العملِ بعوضٍ؛ لأنَّه لم يلتزمْ له بعوضٍ، فوقعَ عملُه تبرُّعًا.
ولا يستحقُّ العاملُ الجُعْلَ إلَّا بالفراغِ من العملِ، كالبُرءِ من المرض إن كان الجُعلُ على الشفاءِ، أو الحِذْقِ بالقراءةِ والكتابةِ إن كان على التعليمِ، أو تسليمِ الضالةِ إن كان على ردِّها، وهكذا.
وإذا اختلف العاملُ وصاحبُ المالِ في شرطِ الجُعلِ، فقال العاملُ: شرطتَ جعلًا على هذا العملِ، وقال صاحبُ المالِ: لم أشرِطْ، فيُقبلُ قولُ صاحبِ المالِ بيمينِه؛ لأنَّ الأصلَ عدمُ الشَّرطِ، ولأنَّ العاملَ يَدَّعى عليه الضمانَ والالتزام، والأصلُ عدمُه، وكذلك لو اختلفَا في العملِ الذي شُرِط له الجُعلُ: كأنْ يقولَ صاحبُ المالِ: شرطْتُ الجعلَ لردِّ دابتي الضالةِ، ويقولَ العاملُ: بل شرطتَه لردِّ متاعِك الفلانيِّ، أو اختلفَا فيمن قام بالعملِ: فقال شخصٌ: أنا الذي قمتُ بهذا، وقال صاحبُ العملِ: بل قام به شخصٌ آخرُ، ففي الصورتينِ يُصدِّق صاحبُ العملِ بيمينِه؛ لأنَّ العاملَ يَدَّعى عليه شرطَ الجُعلِ في عقدٍ الأصلُ عدمُه، كما أنَّه يَدَّعي عليه شغلَ ذمَّتِه، والأصلُ براءةُ ذِمَّتِه.
وإن اختلفَا في قدْرِ الجُعلِ أو صفتِه أو جنسِه، كأنْ قال العاملُ: شرطتَ لي ألفَ درهمٍ، فقال صاحبُ المالِ: بل شرطتُ خمسَمائةٍ، أو قال: العاملُ شرطتَ عشَرةَ دنانيرَ، فقال صاحبُ المالِ: بل عشَرةَ دراهمَ، ونحوُ ذلك، تحالفَا؛ أي: حلَف كل منهما على إثباتِ قولِه ونفيِ قولِ الآخرِ، فإذا حلفَا تساقطَت أقوالُهما، واستحقَّ العاملُ أجرةَ المثلِ.
وكذلك لو اختلفَا في العملِ، فقال العاملُ: شرطتَ لي كذَا على هذا العملِ وحدَه، وقال صاحبُ العملِ: بل شرطتُه على هذا العملِ وذاك، تحالفَا، فإذا حلفَا تساقطَت أقوالُهما، واستحقَّ العاملُ أجرةَ المثلِ -أيضًا-.