الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حكم إعمال هذه الدلالات في لفظ المكلف:
قد سبق بيان حكم هذه الدلالات في النُّصُوص الشرعية.
والمطلوب هنا بيان حكم إعمال هذه الدلالات- الاقتضاء، والإِشارة، والإِيماء- في كلام المكلفين من إقرار، وتعاقد، ونحوهما.
فنقول: إنَّ هذه الدلالات هي دلالات التزامية للكلام، ولفظ المكلف قد وضع للدلالة على إرادته بالتزاماته العقدية ونحوها التي اتجه إليها قصده عند صدور الكلام منه، ولذا وجب عند تفسير دلالة كلامه أَنْ يلحظ هذا الأمر.
وغاية البحث في الألفاظ ودلالاتها صريحةً أَوْ التزاميةً: هو الكشف عن إرادة المكلف لما صدر منه من إقرار، أَوْ تصرف، أَوْ معاقدة، يقول ابن القَيِّمِ (ت: 751 هـ) - بعد أَنْ بين أَنَّ الألفاظ لم ترد لذواتها، ولا تُعُبِّدْنا بها، وإنَّما هي وسائل إلى المعاني، وأَنَّ الحقائق لا تتغير بتغير اللفظ، وأَنَّ الاستنباط هو استخراج الأمر الذي من شأنه أَنْ يخفي على غير مستنبطه-، يقول:"وإنَّما هذا -يعني الاستنباط- فهم لوازم المعنى ونظائره، ومراد المتكلم بكلامه، ومعرفة حدود كلامه بحيث لا يدخل فيها غير المراد، ولا يخرج منها شيء من المراد"(1).
(1) إعلام الموقعين 1/ 225.
وقال في موضع آخر: "فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وَجَبَ اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنَّما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأيِّ طريق كان عُمِل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أَوْ كتابة، أَوْ إيماءة، أَوْ دلالة عقلية، أَوْ قرينة حالية، أَوْ عادة له مطردة لا يخل بها"(1).
فقد ضبط ابن القَيِّمِ فيما ذكره سابقًا اعتبار تفسير الكلام بأَنَّه: ما أظهر مراد المكلف وأوضحه بأيّ طريق كان، وعدَّ من الدلالات الالتزامية دلالةَ الإِيماء.
وصرح بعض المعاصرين: بأَنَّه يعمل بدلالة الاقتضاء في كلام المكلفين؛ لأَنَّ الأصل صيانة كلام العاقل عن اللغو، ولأَنَّ إعمال الكلام خير من إهماله (2).
وهذا هو ظاهر صنيع الأصوليين، فقد مَثَّلوا لدلالة الاقتضاء التي أوجبها تَوَقُّف صِحَّة الكلام على الدلالة عقلًا بأمر شخص لغيره بقوله: اصعد السطح، فإذا يقضي بالضرورة نصب السُّلَّم.
كما مَثَّلوا لدلالة الاقتضاء التي أوجبها تَوَقُّف صِحَّة الكلام عليها بقول شخص لآخر: اعتق عبدك عني على خمسمائة درهم، فيقدر إذا أعتقه بيع ضمني؛ لأَنَّ ذلك يقتضي ضرورة دخول العبد في
(1) إعلام الموقعين 1/ 118، وانظر في المعنى نفسه: أحكام أهل الذمة 1/ 308.
(2)
المناهج الأصولية للدريني 350، والقاعدة الكلية للهرموش 356، 357.
ملك القائل قبل عتقه بزمن ما؛ ليكون عتقه متفرعًا على ملكه (1).
ولم أقف على غير ذلك في بيان حجية الدلالات المذكورة في كلام المكلفين.
والذي يظهر لي: أَنَّ دلالة الاقتضاء، والإِشارة، والإِيماء تُعْمَل أَوْ تُهْمَل بحسب القرائن التي تحتف بها، فتوجب إعمالها أَوْ إهمالها، سواء كانت القرائن عرفية، أَمْ حالية، أَمْ مقالية من سياق ونحوه، أَمْ بينات قضائية، أَمْ مرجحات أوّلية من أصل أَوْ ظاهر (2)، وإذا جرى إعمالها للقرائن المقتضية لذلك، واقتضى الأمر تقوية الدلالة باليمين وأمكن فَعَلَه القاضي، وذلك كما في التحليف عند تفسير الكناية في القذف (3).
على أَنّه يجب أَنْ يلحظ عند تفسير الكلام باقتضائه ما فيه من إجمال أَوْ اشتراك، فيسلك في تفسيره الأصول والأحكام المقررة في تفسير المجمل، وقد سبق بيان ذلك (4).
أَمَّا إذا خلت هذه الدلالات من القرائن الموجبة أَوْ النافية لها
(1) شرح مختصر الروضة 2/ 710، 720، شرح الكوكب المنير 457.
(2)
في أعمال القرائن في الدلالات اللفظية عند المكلف انظر: قواعد الأحكام 2/ 126، أحكام أهل الذمة 1/ 307، الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر 3/ 233، القواعد والأصول الجامعة لابن سعدي 72.
(3)
انظر في التحليف بكناية القذف إذا فسرها بغير القذف [الكشاف 6/ 112].
(4)
انظر: المطلب الرابع من المبحث الثاني من الفصل الخامس من الباب الأول.
فيُعْمَل بدلالة الاقتضاء؛ لقوتها؛ لأَنَّ الدلالة مقصودة للمتكلم في أصل الوضع (1).
ولا يعمل بدلالة الإِشارة؛ لأَنَّها غير مقصودة باللفظ في أصل الوضع (2)، واللازم قد لا يقصده المكلف عند كلامه فلا يلزمه، وليس هناك ضرورة تقتضيه في أصل الوضع، كدلالة الاقتضاء.
كما لا يُعْمَل بدلالة الإِيماء؛ لأَنَّها تعود إلى إثبات العلة في باب القياس (3)، وهو ممتنع في كلام المكلف فيما يَدُلُّ على إرادته في التعاقد ونحوه، ولا تؤمن نتيجته بإلزام المكلف بما لم يلتزمه.
قال العلماء: إذا كان الحكم معللًا بعلة فلا يتكرر بتكرارها في تصرفات المكلفين (4)؛ وما ذلك إلَّا لمنع القياس في تصرفات المكلفين.
* * *
(1) انظر التعليل في: قواعد الحصني 3/ 206، شرح الكوكب المنير 3/ 474.
(2)
انظر التعليل في: شرح الكوكب المنير 3/ 474.
(3)
في كون الإِيماء من مسالك القياس انظر: شرح الكوكب المنير 3/ 478، 4/ 125.
(4)
قواعد الحصني 3/ 32.