الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الرابع اجتهاد القاضي في قبول طرق الإِثبات وردها
إنَّ البينة (طريق الإِثبات) إذا قامت لدى القاضي سواء كان ذلك إقرارًا، أَمْ شهادة، أَمْ تقريرَ خبيرٍ، أَمْ قرينة، أَمْ غيرها، فالأصل وجوب إعمالها إذا استوفت ما يجب لها، فالحاكم أسير الحجج الشرعية (1) غير أَنَّ القاضي قد يلحظ وجهًا موجبًا لرد البينة، أَوْ قد تتعارض البينات لديه بين إقرار وقرينة، أَوْ شهادة وقرينة، ونحو ذلك من البينات، فهنا على القاضي الأخذ بما كان أقوى دلالة من البينات ولو كان ذلك بتقديم قرينة قوية على إقرار، أَوْ برد قرار خبير، ونحو ذلك، لكن لا بُدَّ في ذلك جميعه من تسبيب صَحِيح يبين فيه قوة ما أخذ به، ووهن ما عدل عنه، مراعيًا أصول إعمال البينات وردها، ودفع التعارض بينها عند ظهوره (2)، ويَدُلُّ لذلك ما يلي:
(1) قواعد الأحكام 2/ 91، 100، البحر المحيط 6/ 312، الإحكام للقرافي 26، 28، النظرية العامة لإثبات موجبات الحدود 1/ 246.
(2)
ستأتي الإشارة إلى طرق دفع التعارض بين البينات وذلك في: المطلب الثاني من المبحث السابع من الفصل الثالث من الباب الثاني.
1 -
قوله -تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282]؛ فقد جعل الله الرضا بالشهادة قيدًا على قبولها، وتقدير الرضا بها يرجع لاجتهاد القاضي قبولًا وردًا؛ طبقًا للقواعد المقررة شرعًا، يقول ابن العربي (ت: 543 هـ) "قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء} دليل على تفويض القبول في الشهادة إلى الحاكم؛ لأَنَّ الرضا معنى يكون في النفس بما يظهر إليها من الأمارات عليه، ويقوم من الدلائل المبينة له، ولا يكون غير هذا، فإنَّا لو جعلناه لغيره لما وصل إليه إلَّا بالاجتهاد، واجتهاده أولى من اجتهاد غيره
…
قال علماؤنا -يعني علماء المالكية-: هذا دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات على ما خفي من المعاني والأحكام" (1).
2 -
قوله -تعالى-: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)} [الحجرات: 6] ، فدَلَّت الآية على أَنَّ خبر الفاسق لا يرد مطلقًا، ولا يقبل مطلقًا، بل يُتَثَبَّتُ منه، فإن ظهر صدقه أخذ به، وإن ظهر كذبه وجب رده، ولا يتوصل إلى ذلك إلَّا بالاجتهاد والنظر في البينة من القاضي.
يقول ابن القَيِّمِ (ت: 751 هـ): "والله سبحانه لم يأمر برد خبر
(1) أحكام القرآن 2/ 336.
الفاسق، فلا يجوز رده مطلقًا، بل يتثبت فيه حتى يتبين: هل هو صادق أَوْ كاذب؟ فإن كان صادقًا قُبِلَ قوله وعمل به، وفسقه عليه، وإن كان كاذبًا رُدَّ خبره، ولم يلتفت إليه" (1)، وسر المسألة: أَنَّ مدار قبول الشهادة وردها على غلبة ظن الصدق وعدمه، وهذا لا يكون إلَّا بعد اجتهاد القاضي في ذلك.
3 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب، فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى لا تفعل- يرحمك الله- هو ابنها فقضى به للصغرى"(2).
فقد قَدَّم سليمان هنا القرينة الحالية- وهي شفقة الصغرى على الابن-، قدمها على اعترافها بالابن للكبرى، وقضى به للصغرى، قال ابن القَيِّمِ: "فأي شيء أحسن من اعتبار هذه القرينة الظاهرة، فاستدل برضا الكبرى بذلك، وأَنَّها قصدت الاسترواح إلى التأسي بمساواة الصغرى في فَقْد ولدها، وبشفقة الصغرى عليه وامتناعها من
(1) الطرق الحكمية 235.
(2)
متفق عليه واللفظ لمسلم، فقد رواه البخاري (الفتح 12/ 55)، وهو برقم 6769، ومسلم (3/ 1344)، وهو برقم 1720.
الرضا بذلك، على أَنَّها هي أمه، وأَنَّ الحامل لها على الامتناع هو ما قام بقلبها من الرحمة والشفقة التي وضعها الله في قلب الأم، وقويت هذه القرينة عنده حتى قدمها على إقرارها، فإنّه حكم به لها مع قولها: وابنها، وهذا هو الحق، فإنَّ الإِقرار إذا كان لعلة اطّلع عليها الحاكم لم يلتفت إليه" (1).
وقد ترجم الإِمام النسائي (ت: 303 هـ) في السنن الكبرى على هذا الحديث بقوله: "الحكم بخلاف ما يعترف به المحكوم له إذا تبين للحاكم أَنَّ الحق غير ما اعترف به"(2).
قال ابن القَيِّمِ معلقًا على هذه الترجمة: "فهكذا يكون الفهم عن الله ورسوله"(3)، كما قال:"وهذا هو العلم استنباطًا ودليلًا"(4).
فالقاضي يسعى جهده لإِيصال الحقوق لأصحابها، ولا يحول بينه وبين ذلك شهادة أَوْ إقرار إذا ظهر فيها الريبة، يقول ابن القَيِّمِ:"ولم يزل حذاق الحكام والولاة يستخرجون الحقوق بالفراسة، والأمارات، فإذا ظهرت لم يقدموا عليها شهادة تخالفها ولا إقرارًا"(5).
(1) الطرق الحكمية 5، 6، وفي المعنى نفسه: إعلام الموقعين 4/ 372.
(2)
3/ 473.
(3)
الطرق الحكمية 6.
(4)
إعلام الموقعين 4/ 371.
(5)
الطرق الحكمية 32.
لكن ذلك إنَّما يكون بأدلة توجبه وتبينه يذكرها القاضي في أسباب حكمه حتى يكون ذلك مقنعًا بصِحَّة الحكم حاملًا على قبوله، يقول ابن عاشور (ت: 1393 هـ): "فليس الإِسراع بالفصل بين الخصمين وحده محمودًا إذا لم يكن الفصل قاطعا لعود المنازعة، ومقنعًا في ظهور كونه صوابًا وعدلًا"(1).
وسِرُّ ذلك: أَنَّ القاضي لا يجوز له الاعتماد على غلبة الظن النفسي الذي لا يعتمد على دليل قضائي، بل لا بُدَّ من اعتماد القاضي في قبول البينات وردها على دليل قضائي يحدث غلبة ظن للقاضي في ترجيح أحد الجانبين على الآخر، يقول ابن دقيق العيد (ت: 702 هـ): "لا يجوز الحكم إلَّا بالقانون الشرعي الذي رتب عليه وإن غلب على الظن صدق المدعي"(2).
* * *