الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
طرق الجمع والترجيح فيما يصدر عن المكلف:
عند تعارض القول والفعل والسكوت: يقدم القول على الفعل، والفعل على السكوت؛ لأَنَّ القول أصرح من الفعل، والفعل أدَلُّ على المراد من السكوت، هذا في الجملة، وقد يخرج عن ذلك لقرينة ظاهرة.
وأشير إلى جملة من الأحكام المتعلقة بالتعارض وطرق الجمع والترجيح في خطاب المكلف وتصرفاته، وهي:
(أ) يعمل بقوة الدلالة؛ فيقدم النَّصّ على الظاهر، والمنطوق على المفهوم، والنَّصّ والظاهر على دلالة الحال والسياق، ولذلك كان من المقرر فقهًا: أَنَّه لا عبرة بالدلالة في مقابلة التصريح (1) ما لم يعارض ذلك جميعه شيء من القرائن القوية، فيعمل بما يقتضيه الحال، فعلى سبيل المثال: تُقَدم القرائن إذا قويت على الإِقرار ولو كان صريحًا، كما ستأتي الإِشارة إلى ذلك في المطلب القادم.
كما ويحمل العام على الخاص والمطلق على المقيد، كما سبق بيانه (2).
(ب) إذا حصل تعارض بين إقراري المكلف في الحقوق
(1) المجلة العدلية (م 13)، المدخل الفقهي العام للزرقاء 2/ 972.
(2)
انظر ذلك في المطلبين الخامس والسادس من المبحث الأول من هذا الفصل (الثالث) من الباب الثاني.
الخاصة فيؤخذ بأشدّهما عليه، فعدوله إلى الأقل غير مقبول؛ لأَنَّه رجوع عن الإِقرار، وعدوله إلى الأكثر اعتراف بحق للغير لا مسقط له؛ فلو اعترف في مجلس بألف ريال، ثم اعترف في آخر بألف وخمسمائة ريال، ولم يظهر ما يقتضي تَعَدُّد الإِقرار- أخذنا بأكثرهما عليه.
وقد يجمع بين المتناقضين بإلغاء أحدهما؛ لأَنَّه سهو عند القرينة المقتضية لذلك؛ يقول ابن حجر المكي (ت: 974 هـ): "إذا سمع من الواقف كلمات متناقضة حكمنا عليه بالسهو في بعضها، ورجحنا مقابله، وعملنا به بقرائن لفظية أَوْ حالية"(1)(2).
(ج) إذا تعارض إقرار المكلف فيما يتعلق بالحدود، وحصل تناقض بين أقواله طُلِب منه تفسيرها، فإن فسرها على وجه يَصِحُّ، وإلَّا كان التعارض شبهة موجبة لدرء الحد، والحدود تدرأ بالشبهات.
(د) إذا حصل تناقض من المدعي في دعواه، مثل: أَنْ يقر بعين لشخص، ثم يدعيها لنفسه، ومثل: أَنْ يدعي شخص على آخر
(1) الفتاوى الكبرى الفقهية 3/ 233.
(2)
فائدة: قال ابن حجر المكي: "إن الموثق إذا وقع منه عبارتان متنافيتان، فإن أمكن الجمع بينهما بحمل كل منهما على حاله
…
وجب المصير إليه، وإن لم يمكن ذلك، فإن اعتضدت إحداهما بقرينة عمل بها وطرحت الأخرى، وإن لم تعضد واحدة بشيء تعارضتا فتساقطتا" [الفتاوى الكبرى الفقهية 3/ 250].
وديعة، فينكرها المدعى عليه، فيقيم المدعي البينة على الإِيداع، فيدفع المدعى عليه بالهلاك، فلا تقبل الدعوى الثانية، ويعمل بالأولى.
وللتناقض شروط، ولكيفية ارتفاعه والعمل عند ذلك تفصيلات مقررة عند أهل العلم يرجع إليها في مظانها (1).
(هـ) التعارض بين المرجحات الأولية من الأصل والظاهر:
المراد بالأصل: الحالة العادية الثابتة التي لا تحتاج إلى دليل، مثل: أصل براءة الذمة قبل عمارتها (2).
والمراد بالظاهر: ما ترجح وقوعه، مثل: العرف، وأصل صِحَّة العقود بعد وقوعها؛ لأَنَّ الغالب تمامها على وجه الصِّحَّة (3).
والقاعدة: تقديم البينة الشرعية- مثل الشهادة- على دلالة الأصل والظاهر، فإذا لم يكن ثم شهادة، أَوْ تعارضت الشهادات صرنا للترجيح بالأصل والظاهر، فإذا انفرد أحدهما أخذنا به، وإذا حصل تعارض بينهما؛ فإن دَلَّ على الاعتداد بأحدهما نَصٌّ شرعي وجب إعماله، وذلك كتقديم قول واصف اللقطة على منازعه ممن عجز عن وصفها (4)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا جاء صاحبها، فعرف
(1) انظر: دعوى التناقض للدغمي 71 - 146، ونظرية الدعوى 1/ 379 - 410.
(2)
وسائل الإِثبات 659.
(3)
المنثور 1/ 312.
(4)
القواعد لابن رجب 339.
عفاصها، وعددها، ووكاءها فأعطها إياه، وإلَّا فهي لك" (1).
فإن لم يكن نَصٌّ كان ترجيح أحدهما على الآخر بحسب القرائن ومقتضيات الأحوال؛ فتارة يقدم الأصل، وتارة يقدم الظاهر.
قال ابن سعدي (ت: 1376 هـ): "إذا تعارض الأصل مع الظاهر يرجح أرجحهما، ومن الترجيحات كثرة القرائن وقوتها"(2).
فيقدم الأصل على الظاهر إذا كان الظاهر مجرد احتمال، مثل: الرجل الصالح يدعي على أفسق الناس دينًا ونحوه، فقد تعارض معنا الأصل- وهو براءة الذمة- مع الظاهر وهو أَنَّ الغالب صدق الرجل الصالح فيما يدعيه، وأعملنا الأصل؛ لأَنَّ الظاهر مجرد احتمال.
ويقدم الظاهر على الأصل إذا كان الظاهر سببًا قويًّا منضبطًا، وذلك مثل: العقد يتنازع شخصان في صحته؛ أحدهما يدعي مفسدًا، والآخر يدعي كمال شروطه، فيقدم الظاهر هنا وهو أَنَّ الغالب في عقود الناس الصِّحَّة على الأصل، وهو عدم استيفاء العقد للشروط.
(1) رواه البخاري (الفتح 5/ 93)، وهو برقم 2438، ومسلم واللفظ له 3/ (1345، 1346)، وهو برقم 1722/ 6.
(2)
طريق الوصول إلى العلم المأمول 154، وأشار إلى الاختيارات، وانظر المعنى نفسه في: قواعد الأحكام 2/ 54.
فإذا تعارض أصلان قُدِّم أقواهما دلالة إمَّا لاعتضاده بمرجح آخر من أصل أَوْ ظاهر، أَوْ لكون أحد الأصلين أكثر تعلقًا بموضع النزاع، أَوْ أكثر شبهًا به، وقد يعمل بالأصلين معًا (1).
مثال ما قُدِّم فيه أحد الأصلين على الآخر: أَنْ تكون دار رجل في يد آخر، فيقول المالك: لقد آجرتك، ويقول الذي هي في يده: بل أعرتني، ولم تمض مدة لها أجرة، فالقول لمدعي الإِعارة بيمينه.
فقد تنازعها هنا أصلان؛ أصل عدم الإِعارة، وأصل عدم الإِجارة، وقدمنا أصل عدم الإِجارة لاعتضاده بأصل آخر، وهو براءة الذمة.
لكن لو كان ذلك بعد مُضِيِّ مدة لها أجرة، وطالب مالكها بأجرة ما مضى رَجَّحْنا قول المالك في دعوى الإِجارة بيمينه؛ لاعتضاده بالظاهر، وهو أَنَّ العادة بذل الإِنسان ماله معاوضة، وأن على قابضه ضمانه بعوض، فيكون القول قول القابض في نفي الإجارة، فترد العين لصاحبها، والقول قول المالك في استحقاق الأجرة لما مضى- فيقضى له بأجرة المثل إعمالًا لكل أصل بما ترجح به (2)، وهذا مثال لإعمال الأصلين معًا.
(1) البهجة 1/ 54، تبصرة الحكام 1/ 143، قواعد الأحكام 1/ 56، القواعد لابن رجب 324، الروض المربع 7/ 579.
(2)
شرح المنتهى 2/ 398، الكشاف 4/ 74، الروض المربع مع حاشية ابن قاسم 5/ 350.
وهكذا إذا تعارض الظاهران، عملنا مثل عملنا في تعارض الأصلين (1).
مثال ما قدم فيه أحد الظاهرين: أَنْ يتداعى جَزَّارَان في جِلْد هو بيد أحدهما، فيقضى به للذي هو بيده مع يمينه، فقد تعارض معنا ظاهر من الجانبين وهو العرف، وقدمنا صاحب اليد؛ لاعتضاده بظاهر آخر وهي اليد، وأَمَّا إذا لم يكن بيد أحدهما ولا منازع لهما فنقسمه بينهما نِصْفين إعمالًا للظاهر من الجانبين وهو العرف، ولا مرجح لأحدهما على الآخر، وعلى كل واحد منهما يمين لصاحبه (2).
* * *
(1) المراجع نفسها في الحاشية قبل السابقة.
(2)
البهجة 1/ 54، الروض المربع 7/ 579.