الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول الأصل الأول
النظر في مآلات الوقائع عند التَّوْصِيف
ونبيِّن في هذا المطلب النظر في مآلات الوقائع عند التوصيف، ومسالكَ ذلك في عنوانين متتاليين:
النظر في مآلات الوقائع عند التَّوْصِيف:
النظر في مآلات الأفعال (الوقائع) مأمورًا بها، أَوْ منهيًا عنها أمرٌ لا بُدَّ منه عند توصيفها والحكم فيه، فهو مقصود شرعًا.
فإذا كان الفعل يؤدي إلى أمر غير محمود شرعًا منع على المكلف وإن كان في أصله جائزًا أَوْ واجبًا.
فقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتل المنافقين مع علمه بهم، وذلك حتى كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه جابر بن عبد الله رضي الله عنه:"لا يتحدَّث الناس أن محمَّدًا يقتل أَصْحَابه"(1).
(1) متفق عليه، واللفظ لمسلم؛ فقد رواه البخاري (الفتح 6/ 546)، وهو برقم 3518، كما رواه مسلم (4/ 1998 - 1999)، وهو برقم 2584.
ومراعاة هذا الأصل -أعني النظر في المآلات- عند تَوْصِيف الأَقْضِيَة بتنزيل الأحكام الكلية على الوقائع معدود من صفات أهل الرسوخ في العلم؛ يقول الشاطبي -في بيان صفة العالم الراسخ-: "إنَّه ناظر في المآلات قبل الجواب على السؤالات"(1).
فالقاضي -بل والمفتي- وهو يوصف الواقعة لا بُدَّ له من التبصر في التَّوْصِيف بأَنْ يقدر عواقب ما يقرره ناظرًا إلى أثره أَوْ آثاره، فإن لم يفعل كان عمله خطأً مضيعًا للحقوق أدخله في الشرع اعتمادًا منه على تأويل ظهر له لم يلتفت فيه إلى عواقبه ومآلاته (2).
يقول ابن القَيمِ (ت: 751 هـ): "فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في كليات الأحكام- أضاع حقوقًا كثيرة على أَصْحَابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه، لا يَشُكُّون فيه اعتمادًا منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله"(3).
فعلى القاضي وهو يوصف الواقعة بتنزيل الأوصاف الكائنة في الحكم الكلي عليها أَنْ ينظر نظرًا خاصًا في الحكم الذي حدده لتطبيقه
(1) الموافقات 4/ 232.
(2)
الموافقات 4/ 194، إعلام الموقعين 3/ 3، الطرق الحكمية 4، فتاوى السبكي 2/ 123، نظرية المقاصد 352، المناهج الأصولية 235، نظرية التعسف 12، 14، فصول في الفكر الإسلامي بالمغرب 218.
(3)
الطرق الحكمية 4.
على الواقعة، ولا يقطع نظره عن النظر في مآل الواقعة لو طبق عليها ذلك الحكم الكلي، بل عليه مراعاة مآل الواقعة، فإن ظهر له عدم المواءمة بين الحكم الكلي ومآله على الواقعة أعاد النظر مرة أخرى في ملاقاة الحكم للواقعة، وطلب غيره مما يكون أقعد بمراعاة مآلها، أَوْ أضاف على الحكم، أَوْ حذف منه من القيود ما يحقق النظر في ذلك المآل طلبًا أَوْ منعًا.
وإن رأى المواءمة بينهما طبقه على الواقعة، وحكم وألزم، يقول الشاطبي (ت: 790 هـ): "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعًا كانت الأفعال موافقةً أَوْ مخالفةً، وذلك أَنَّ المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أَوْ الإحجام إلَّا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعًا لمصلحة فيه تُسْتَجْلب، أَوْ لمفسدة تُدْرَأ"(1).
إن على القاضي وهو يقوم بتنزيل الأحكام الكلية المجردة على الوقائع القضائية أَنْ يلحظ ظروف، وأحوال، وملابسات، ومآلات الواقعة، وآثارها، فيعمل على المواءمة بين مقتضيات الحكم الكلي مجردًا وبين الواقعة القضائية لاحظًا ما ذكرنا (2).
ومن صور ذلك أَنَّ الحكم إذا كان يؤدي في مآله إلى الفتنة والفساد على الدين أَوْ الأمة فإنَّ القاضي يتوقى ذلك المآل بالقيود
(1) الموافقات 4/ 194.
(2)
الطرق الحكمية 4، نظرية التعسف 19، مصادر المعرفة 429 - 430.
الدافعة له زيادة أَوْ نقصًا، أَوْ يَعْدِل عنه إلى تَوْصِيف وحكم آخر؛ يقول ابن تَيْمِيّهَ (ت: 728 هـ) -في الرد على الذين أنكروا عليه الفتيا في بعض المسائل، وقرروا حبسه إذا لم يمتنع عن ذلك-:"إن هذه الأحكام مع أَنّها باطلة بالإجماع فإنَّها مثيرة للفتن، مفرقة بين قلوب الأمة، متضمنة للعدوان على المسلمين، والحكمُ بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا والآخرة، والحكمُ بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا، والآخرة، فيجب نقضه بالإجماع"(1).
ولا يعني النظر في المآلات عند الحكم والفتيا أَنَّ القاضي أَوْ المفتي يعمل استحسانه العقلي مجردًا من النُّصُوص الشرعية وأصول الشريعة، فمن فعل ذلك فهو مُتَشَهٍّ قد ردّ الناس إلى هواه، وجعل طلب غير الشريعة مبتغاه، وكان آثمًا مأزورًا غير مأجور؛ يقول ابن تَيْمِيَّة (ت: 728 هـ): "فمن استحل أَنْ يحكم بين الناس بما يراه هو عدلًا، من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنَّه ما من أمة إلَّا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها"(2).
ويقول الجويني (ت: 478 هـ): "من ظنَّ أَنَ الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ومقتضى رأي الحكماء فقد ردَ الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة"(3).
(1) مجموع الفتاوى 28/ 302.
(2)
منهاج السنة 5/ 130، مجموعة التوحيد - الرسالة الثانية عشرة 59.
(3)
الغياثي 220.