الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث اجتهاد القاضي في التَّوْصِيف وتكراره بتكرار النازلة القضائية
التَّوْصِيف عمل قضائي ذهني، لا يتم على أكمل وجهه إلَّا ببذل غاية الجهد بحيث يشعر القاضي أن لا مزيد على ما بذله، ولا يكفي فيه اجتهاد ناقص يحسّ القاضي من نفسه القدرة على المزيد من الاجتهاد (1).
فيجب على القاضي أَنْ يكون واقفًا على الأحكام الكلية الفقهية، مقتدرًا على تطبيقها، باذلًا قصارى جهده في التفطن لكلام الخصوم وحججهم، ودفوعهم وبيناتهم، والسعي في التثبت منها، وتوقي خداع الخصوم وشبهاتهم، وذلك يستدعي من القاضي أَنْ يكون واعيًا يملك القدرة على الجمع، والمقارنة، والقياس، والتقاط الأوصاف المؤثرة، وتمييز الفروق المقررة، وتحديد
(1) المدخل لابن بدران 367، بهجة قلوب الأبرار 148.
الأوصاف المتفق عليها والمختلف فيها بين الخصمين، والمضي في إثباتها واستنباطها وتوصيفها (1).
ومما يعينه في هذا الباب مطالعة كتب النوازل فتوىً وقضاءً، واطلاعه على أقضية من سبقه، والتعرّف على طريقة تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية (2).
إنَّ العمل القضائي يتطلب مهارة تستوعبه حتى لا يُفْسِد القاضي أكثر مما يصلح؛ يقول الشافعي (ت: 204 هـ) في المفتي: "المستفتي عليل، والمفتي طبيب، فإن لم يكن ماهرًا بالطب، وإلَّا قتله"(3)، وهكذا القاضي.
إنَّ الاجتهاد في تَوْصِيف الوقائع لا يُستغنى عنه بالتقليد، بل هو فريضة في كل نازلة؛ لأنَّ كل واقعة قضائية نازلة مستأنفة لم يسبق لها مثيل في التَّوْصِيف فتحقيق المناط فيها متجدد لا ينضبط بمناط واحد، فلا يمكن التقليد فيها؛ يقول الشاطبي (ت: 790 هـ): "لا يمكن أن يُستغنى ههنا بالتقليد؛ لأَنَّ التقليد إنَّما يُتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم
(1) الفروق 2/ 157، 3/ 102، مجلة الأحكام العدلية (م 1793)، السيل الجرار 4/ 263.
(2)
الروض المربع 7/ 524، الفكر السامي 2/ 428، فتاوى ورسائل 12/ 333.
(3)
الفقيه والمتفقه 2/ 86.
لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلا بُدَّ من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أَنَّه تقدم لنا مثلها فلا بُدَّ من النظر في كونها مثلها أَوْ لا، وهو نظر اجتهاد أيضًا
…
ويكفيك من ذلك أَنَّ الشريعة لم تَنُصَّ على حكم كل جزئية على حدتها، وإنَّما أتت بأمور كلية، وعبارات مطلقة تتناول أعدادًا لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين" (1).
وقد مَثَّل رحمه الله بأمثلة منها: فرض نفقات الزوجات والقرابات من أَنَّه مفتقر إلى النظر في حال المنفَق عليه، والمنفِق، وحال الوقت، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها، فلا يمكن أَنْ يستغنى بالتقليد فيها (2).
* * *
(1) الموافقات 4/ 91 - 92.
(2)
الموافقات 4/ 91.