الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول أهمية الواقعة القضائية
سبق أن بَيَّنَّا الحكم الشرعي الكلي، وأَنّه مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً أَوْ تخييرًا، أَوْ صِحَّةً وبطلانًا، وبَيَّنَّا أَنَّ له سمتين، هما: العموم والتجريد (1)، لكن الحكم الكلي الفقهي بهذه الصفة يبقي نظريًا ساكنًا منزلًا في الأذهان، حتَّى إذا لامسته الواقعة القضائية حركته من سكونه وشخَّصته، فصار منزلًا على الأعيان والأشخاص، فالواقعة القضائية هي المحل الذي يعمل فيه الحكم الكلي، ومن هنا تأتي أهمية الواقعة القضائية؛ فهي التي تحرك الحكم الكلي الفقهي نحو تَوْصِيفها.
يقول ابن القَيِّمِ (ت: 751 هـ): "الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يَصِحُّ له الحكم إلَّا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات، فالأدلة تُعَرِّفه الحكم الشرعي الكلي، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أَوْ انتفاءه عنه، والبينات تعرفه طريق
(1) انظر: المبحث الثاني والثالث من التمهيد من الباب الأول.
الحكم عند التنازع، ومتى أخطأ في واحد من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميع خطأ الحُكَّام مداره على الخطأ فيها أَوْ بعضها.
مثال ذلك: إذا تنازع عنده اثنان في رد سلعة مشتراة بعيب، فحكمه موقوف على العلم بالدليل الشرعي الذي يسلط المشتري على الرد (1)، وهو إجماع الأمة المستند إلى حديث المصراة (2) وغيره، وعلى العلم بالسبب المثبت بحكم الشارع في هذا البيع المعين (3)، وهو كون هذا الوصف عيبًا يسلط الرد أَمْ ليس بعيب، وهذا لا يَتَوَقَّفُ العلم به على الشرع، بل على الحسّ، أَوْ العادة، أَوْ الخبر، ونحو ذلك، وعلى البينة التي هي طريق الحكم بين المتنازعين
…
" (4).
وبهذا يتبين بأَنَّ الواقعة القضائية هي التي تحرك الحكم الكلي من عمومه وتجريده لِيَنْزِل على الوقائع فيشخصها، وتدب فيه الحركة بعد السكون؛ ذلك أَنَّ القاضي إنَّما يحكم ويلزم في الوقائع المعينة، يقول ابن تَيْمِيَّة (ت: 728 هـ): "وحكام المسلمين
(1) والمراد به: الحكم الكلي الفقهي.
(2)
حديث المصراة: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اشترى شاة مصراة فلينقلب بها فليحلبها، فإن رضي حلابها أمسكها، وإلا ردها ومعها صاع من تمر". متفق عليه واللفظ لمسلم، فقد رواه البخاري (الفتح 4/ 361، 368)، وهو برقم 2148، 2151، ومسلم 3/ 1158، وهو برقم 1524.
(3)
المراد به: أدلة مُعَرِّفَات الحُكْم، وهي المعروفة بأدلة وقوع الأحكام.
(4)
بدائع الفوائد 4/ 12.
يحكمون في الأمور المعينة، ولا يحكمون في الأمور الكلية" (1).
فالأحكام الكلية إنَّما شرعت لِتُنَزَّل على الوقائع المعينة، لا لتبقى عِلْمًا مطلقًا لا حقيقة له ولا واقع، يقول الشاطبي (ت: 790 هـ): "
…
الشرائع إنَّما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون" (2)، ويقول في موضع آخر: "ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد (3) لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن" (4).
ولذلك فإنَّه لا بُدَّ لكل حكم قضائي من مقدمتين؛ إحداهما: الحكم الكلي، والأخرى: الواقعة القضائية، فالثانية محل الحكم، والأولى حاكمة عليه (5).
* * *
(1) منهاج السنة 5/ 132.
(2)
الموافقات 3/ 44.
(3)
يعني تحقيق المناط بتنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية، وهو التَّوْصِيف.
(4)
الموافقات 4/ 93.
(5)
الاعتصام 2/ 161، الموافقات 3/ 43، 1/ 334، البهجة 1/ 36، مقاصد الشريعة 31.