الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني مشروعية استنباط الواقعة القضائية المؤثرة
إنَّ الاستنباط- كما مَرَّ- عملية ذهنية يقوم بها القاضي لتقرير ثبوت الواقعة القضائية الحسي أَوْ شيء منها مما يؤثر في الحكم استنباطًا من كلام الخصوم، وأدلة ثبوت الواقعة، وقد دَلَّ على مشروعيته ما يلي:
1 -
قوله -تعالى-: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282].
فقد جعل الله- عز وجل للقاضي الرضا بالشهادة قبولًا وردًا، وهذا يؤكد وظيفته في الاستنباط والاستدلال؛ إذ الشهادة لا ترد إلَّا بموجب شرعي يطلب من القاضي النظر فيه، والاجتهاد في تقريره بحسب ما يظهر له من الاستدلال بالأمارات والعلامات على ثبوت الوقائع واستنباطها من طرق الحكم بواسطة طرق الاستدلال من
الألفاظ والتراكيب، وإذا صَحَّ ذلك في الشهادة قبولًا وردًا صَحَّ في غيره من الوقائع القضائية التي تحتاج إلى استدلال واستنباط.
يقول ابن العربي (ت: 543 هـ): ، "قوله:{مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} دليل على تفويض القبول في الشهادة إلى الحاكم؛ لأنَّ الرضا معنىً يكون في النفس بما يظهر إليها من الأمارات عليه، ويقوم من الدلائل المبينة له، ولا يكون غير هذا، فإنَّا لو جعلناه لغيره لما وُصِلَ إليه إلَّا بالاجتهاد، واجتهاده أولى من اجتهاد غيره
…
قال علماؤنا: هذا دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات على ما خفي من المعاني والأحكام" (1).
2 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: "بينما امرأتان معهما ابناهما، جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنَّما ذهب بابنك أنتِ، وقالت الأخرى: إنَّما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود -عليه ما السلام - فأخبرتاه، فقال ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا تفعل- يرحمك الله- هو ابنها، فقضى به للصغرى"(2).
فقد استنبط سليمان عليه السلام من شفقة الصغرى،
(1) أحكام القرآن 1/ 336.
(2)
متفق عليه واللفظ لمسلم، وقد سبق تخريجه.
وامتناعها من شق الابن، وموافقة الكبرى على شقه، استنبط منه أَنَّ الصغرى هي الأم؛ لتمام شفقتها على الابن، واستنبط من موافقة الكبرى على شقه ضد ذلك؛ إذ لو كانت أُمًّا لم توافق على شقه نصفين، واستدل بهذه القرينة القوية على تقرير الواقعة المذكورة، وهي بنوة المتنازع فيه للصغرى، وقدمها على الإِقرار (1).
قال ابن القَيِّمِ (ت: 751 هـ): "ولا أحسن من هذا الحكم وهذا الفهم وإذا لم يكن مثل هذا في الحاكم أضاع حقوق الناس"(2).
وقد ترجم الإِمام النسائي (ت: 303 هـ) على هذا الحديث في السنن الكبري (3) بقوله: "اللهم في القضاء، والتدبير فيه، والحكم بالاستدلال".
وذكر النسائي الحديث مختصرًا، وقال في آخره: "فقال سليمان -يعني للكبرى-: لو كان ابنك لم ترضيْ أَنْ يقطع
…
" (4)، فهذا يؤكد مشروعية استنباط القاضي للمعاني والأحكام من طرق الحكم وأدلته.
فاستنباط المعاني المؤثرة في ثبوت الواقعة أَوْ شيء من
(1) الطرق الحكمية 5، 6، إعلام الموقعين 4/ 372.
(2)
إعلام الموقعين 4/ 372.
(3)
3/ 372، وقارن بما ذكره في فتح الباري 12/ 56.
(4)
السنن الكبرى 3/ 472.
أوصافها عمل لا يسوغ للقاضي تركه؛ لأَنَّه لا يتمكن من تَوْصِيف الوقائع القضائية والحكم فيها إلَّا به، يقول ابن القَيَّمِ:"لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلَّا بنوعين من الفهم؛ أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علمًا، والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو حكم الله الذي حكم به في كتابه أَوْ على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر"(1).
وبالفهم ودقة الاستنباط يتوصل القاضي إلى حل ما أشكل، وفك ما أعضل، وبه فاق بعض القضاة بعضًا في استخراج الحق، وإيصاله لأصحابه، يقول ابن القَيِّمِ:"والذي اختص به إياس وشريح مع مشاركتهما لأهل عصرهما في العلم هو الفهم في الواقع، والاستدلال بالأمارات وشواهد الحال، وهذا الذي فات كثيرًا من الحكام فأضاعوا كثيرًا من الحقوق"(2).
فهذا إياس بن معاوية (ت: 112 هـ) أتته امرأتان تختصمان في كُبَّة غزل ليس معهما بينة، فَبَعَّدَ واحدة وقَرَّبَ الأخرى، فقال لها: على أي شيء كببت غزلك؟ قالت: على كسرة خبز، فَنَحَّاها وقرَّب الأخرى، فقال لها: على أي شيء كببت غزلك؟ قالت: على خرقة،
(1) إعلام الموقعين 1/ 87، 88، وفي المعنى نفسه: الطرق الحكمية 4، 5.
(2)
الطرف الحكمية 47.
فأمر بالكبة فنفضت فإذا هي على كسرة خبز، فلما بلغ ذلك محمد بن سيرين، قال: ويحًا له ما أفهمه! ويحًا له ما أفهمه! (1).
فاستنبط إياس من تَحَاتّ الخبز من الكبة أَن صاحبتها هي التي طابق وصفها حال الكبة، ونفى ذلك عن الأخرى.
وتخاصم رجلان عند إياس بن معاوية في قطيفتين؛ إحداهما حمراء، والأخرى خضراء، جعل أحدهما قطيفته عند قطيفة صاحبه ودخل الحمام، فخرج أحدهما قبل صاحبه، وادعى صاحبه بأَنَّه أخذ قطيفته ومضى بها، وأنه طلب منه إعادتها، فزعم أَنَّها قطيفته، ولا بينة لأحدهما، فقال إياس: ائتوني بمشط، فأُتي به، فسرَّح رأس هذا ورأس هذا، فخرج من رأس أحدهما صوف أحمر، ومن رأس الآخر صوف أخضر، فقضى بالقطيفة الحمراء للذي خرج من رأسه الصوف الأحمر، وبالقطيفة الخضراء للذي خرج من رأسه الصوف الأخضر (2).
فاستنبط إياس من مشاكلة الصوف الذي خرج من رأس كل واحد من الرجلين للون القطيفة بأنَّه صاحبها، وقضى بذلك.
* * *
(1) أخبار القضاة 1/ 332.
(2)
الطرق الحكمية 43.