الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالمنافع والمضارّ التي تبنى عليها مقاصد الشرع وحكمته إضافية، بمعنى أَنَّها منافع أَوْ مضارّ في حال دون حال، ولشخص دون شخص، أَوْ في وقت دون وقت (1)، فمعرفة مقاصد الشرع وحكمته في الواقعة مما يرجح احتمالًا على آخر في التفسير، وقولًا على آخر عند الاختلاف، وهو مما يعين على تحديد التَّوْصِيف الملاقي للواقعة.
بعض الضوابط والأمثلة التي تبين أثر المقاصد والحِكَم عند التَّوْصِيف:
نذكر ضوابط وأمثلة تبين أثر المقاصد والحِكَم في تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع القضائية فيما يلي:
1 - حفظ المال من الإهدار ما أمكن:
لقد جاءت الشريعة بحفظ الضروريات الخمس من الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، سواء كان ذلك في جانب الوجود أَمْ العلم.
وحفظ المال يكون بتنميته وإصلاحه حتى لا يفنى، كما يكون بدفع العوارض عنه وتلافي هذه العوارض عند حدوثها بالزجر،
(1) الموافقات 1/ 250، 251، 2/ 163، 167، 385، فصول في الفكر الإِسلامي بالمغرب 207، 212، 213، نظرية التعسف 14، 15، المناهج الأصولية 6 - 7، 85.
والحد، والضمان (1)، فحفظ المال من الإهدار مقصد مقرر في الشريعة، يَدُلُّ له حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه قال:"تُصُدِّقَ على مولاة لميمونة بشاة، فماتت، فمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هلّا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به، فقالوا: إنَّها ميتة، فقال: إنما حرم أكلها"(2).
قال الزركشي (ت: 794 هـ): "إن فيه احتياطًا للمال، وأَنّه مهما أمكن ألَّا يضيع فلا ينبغي أَنْ يضيع"(3).
ولذلك أمثلة، منها:
(أ) أن من بني في أرض غيره خطأً، أَوْ اشترى من غاصب أرضًا ولم يعلم بالحال، ثم غرس فيها، فقام صاحبها يدّعيها فالمَنْصُوص عن أحمد: أَنَّ الغرس يتملك بالقيمة، ولا يقلع مجانًا، وهو الصَّحِيح عنده، ولا يثبت عنه سواه، ويخير مالك الأرض بين تملك البناء أَوْ الغراس بقيمته وبين التنازل عن الأرض بقيمتها لمالك البناء أَوْ الغراس (4)، وفيه مراعاة حفظ المال من الإهدار، وهو الذي يجري به العمل الآن.
(1) الموافقات 2/ 47، 50، نظرية المقاصد 152 - 160.
(2)
متفق عليه؛ فقد رواه البخاري (الفتح 4/ 413)، وهو برقم 2221، ومسلم 1/ 276، وهو برقم 363.
(3)
البحر المحيط 6/ 223.
(4)
القواعد لابن رجب 148.
(ب) أن من غصب خشبة ونحوها ثم بني عليها، ولا يمكن ردها لمالكها عند مطالبته إلَّا بهدم البناء الذي كلف الغاصب أضعاف قيمة الخشبة فإنَّ الخشبة تُقَدَّر بقيمتها، وتُسَلَّم القيمة لصاحبها، ولا ينقض البناء (1) صيانة للمال، وحفظًا له من الإهدار ما أمكن.
ولو رأى الحاكم مع ذلك في حال الغصب تعزيره بإضعاف الغرم عليه وعقوبة مناسبة جاز (2)؛ ويَدُلُّ على ذلك ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه: "أن رجلًا من مزينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف ترى حريسة الجبل (3)؟ قال: هي ومثلها والنكال (4)، وليس في شيء من الماشية قطع إلَّا فيما آواه المراح (5) فبلغ ثمن المجن (6) ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه (7) وجلدات نكال، قال: يا رسول الله، كيف
(1) الغياثي 497.
(2)
الحسبة لابن تيمية 55، القواعد والأصول الجامعة 83.
(3)
المراد بحريسة الجبل: الشاة المسروقة من المرعى [حاشية السندى على سنن النسائي 8/ 85].
(4)
النكال: العقوبة [حاشية السندى 8/ 86].
(5)
المراح: المحل الذي ترجع إليه الماشية، وتبيت فيه [حاشية السندي 8/ 85].
(6)
المجن: الترس وهو من آلة المحارب، من الجنة، وهي السترة [النهاية في غريب الحديث 4/ 301].
(7)
مثليه: تثنية مثل، وقد جاء بالإفراد في بعض نسخ أبي داود [حاشية السندي 8/ 86].
ترى في الثمر المعلق؟ قال: هو ومثله معه والنكال، وليس في شيء من الثمر المعلق قطع، إلَّا فيما آواه الجرين (1)، فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجن ففيه غرامة مثليه وجلدات نكال" (2).
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم على حريسة الجبل والثمر الذي آواه الجرين ولم يبلغ النِّصَاب جعل فيه غرامة مثليه وجلدات نكال؛ زجرًا للآخذ، وهكذا الغاصب، بجامع الاعتداء في كل منهما.
(ج) أن من أجر مفردًا مشاعًا بينه وبين غيره لغير الشريك، وبالعين المؤجرة غراس محتاج للسقيا، واختصم المستأجر مع من لم يؤجر من الشركاء، فهل يجبر من لم يؤجر من الشركاء على إجارة المثل؟
اختلف العلماء في ذلك؛ فذهب كثير من الحنابلة إلى عدم صِحَّة إجارة المشاع لغير الشريك؛ لأَنَّه لا يقدر على تسليمه.
وخالف آخرون من الحنابلة؛ منهم أبو الخطاب (ت: 510 هـ)، وابن عبد الهادي (ت: 909 هـ)، فقالوا: بِصِحَّة
(1) الجرين: موضع يجمع فيه التمر ويجفف، وهو كالبيدر للحنطة [شرح السيوطي لسنن النسائي 8/ 85].
(2)
رواه النسائي، واللفظ له (8/ 85)، وهو برقم 4959، وأبو داود (4/ 37)، وهو برقم 4390، قال الأرناؤوط في تعليقه على جامع الأصول 3/ 566:"وإسناده حسن".