الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني التَّوْصِيف المُجَزَّأ
والمراد به: إعطاء الواقعة القضائية الواحدة وصفين مختلفين في آن واحد، وإعمال كلٍّ منهما على حدة.
مثاله: أَنْ يدعي رجل على زوجته بأنَّه طلقها على عوض قدره مائة ألف ريال، وتنكر الزوجة المعاوضة على هذا الطلاق، وليس لديه بينة على ما يدعيه، فَتُوَصَّف دعواه الطلاق على أَنّه إقرار وينفذ طلاقه، كما تُوَصَّف دعواه كون هذا الطلاق على عوض بأنَّها دعوى مجردة عن بينة، فلا يثبت له العوض، فينفذ طلاقه من غير عوض (1).
وأصل ذلك ما قرره العلماء: أنَّه إذا اجتمعت الأسباب فإن قَبِلَ الحُكْم التجزئةَ توزعت الأحكام على الأسباب؛ لأَنَّ الأسباب الشرعية يجب صيانتها عن التعطيل ما أمكن (2).
(1) شرح المنتهى 3/ 572.
(2)
القواعد والضوابط المستخرجة من التحرير 380، 381.
ودليله: عن عائشة- رضي الله عنها أَنّها قالت: "اختصم سعد بن أبي وقاص وعَبْدُ بن زمعة في غلام، فقال سعد: هذا يا رسول الله ابن أخي عتبة ابن أبي وقاص عهد إليَّ أَنَّه ابنه، انظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هذا أخي يا رسول الله، ولد على فراش أبي، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شبهه، فرأى شَبَهًا بَيِّنًا بعتبة، فقال: هو لك يا عَبْدُ، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، واحتجبي منه يا سودة بنت زمعة"(1).
فقد أثبت النبي صلى الله عليه وسلم نسبه لعتبة بن زمعة، فيثبت بذلك ميراثه والتحريم بين محارمه، وأمر سودة بالاحتجاب منه، فلا ينظر إليها، ولا يخلو بها، فجعل لهذه الواقعة توصيفين من جهتين، فجزأ التَّوْصِيف، وأعطى كل تَوْصِيف أثره.
قال ابن القَيِّمِ (ت: 751 هـ): "وأَمَّا أمره سودة وهي أخته بالاحتجاب منه فهذا يَدُلُّ على أصل، وهو تبعيض أحكام النسب، فيكون أخاها في التحريم والميراث وغيره، ولا يكون أخاها في المحرمية والخلوة والنظر إليها؛ لمعارضة الشبه للفراش، فأعطى الفراش حكمه من ثبوت الحرمة وغيرها، وأعطى الشبه حكمه من ثبوت المحرمية لسودة، وهذا باب من دقيق العلم وسره لا يلحظه إلَّا الأئمة المطلعون على أغواره، المَغنِيُّون بالنظر في مآخذ الشرع
(1) متفق عليه، فقد رواه البخاري (الفتح 5/ 163، 12/ 32)، وهو برقم 2533، ورقم 6749، ومسلم واللفظ له (2/ 1080)، وهو برقم 36/ 1457.
وأسراره
…
وبالجملة فهذا من أسرار الفقه، ومراعاة الأوصاف التي تترتب عليها الأحكام، وترتيب مقتضى كل وصف عليه، ومن تأمل الشريعة أطلعته من ذلك على أسرار وحكم تبهر الناظر فيها" (1).
ولا يختص تجزئة الأحكام وتبعيضها بالنسب، بل يشمل صورًا غيرها؛ قال ابن سعدى (ت: 1376 هـ): "قد تتبعض الأحكام بحسب تفاوت أسبابها، وهذه قاعدة لطيفة تستدعي معرفة مآخذ المسائل، ومعرفة عللها وحكمها، فتترتب آثارها عليها بحسب ذلك"(2)، وذكر لذلك أمثلة منها:
في الشهادات: إذا شهد رجل وامرأتان، أَوْ رجل عدل وحلف معه صاحب الحق ثبت المال؛ لتمام نِصَابه، دون القطع؛ لأَنَّه لا يثبت إلَّا برجلين.
ومنها: إذا أَقَرَّ السارق بالسرقة مرة واحدة فقد ثبت المال دون القطع؛ لأَنَّه لا بُدَّ فيه من إقرار مرتين.
ومنها: مسائل تفريق الصفقة في البيوع، والإجارات والشركات، والتبرعات وغيرها إذا جمع في العقد بين مباح ومحرم، أَوْ بين ما يملك العقد عليه وما لا يملك صَحَّ في المباح وما يملك
(1) شرح سنن أبي داود 6/ 366 - 368، وانظر في المعنى نفسه: بدائع الفوائد 4/ 129، الاختيارات 278، فتح الباري 12/ 38.
(2)
القواعد والأصول الجامعة 75.
العقد عليه بملك أَوْ ولاية، وبطل ولغى الآخر (1).
ومن ذلك: أَنَّه إذا استاجر أجيرٌ مشتركٌ أجيرًا خاصًّا فلكل واحد منهما حكم نفسه في الضمان، فلو تقبل الأجير المشترك خياطة ثوب ودفعه إلى أجيره الخاص فأتلفه بلا تعدٍّ ولا تفريط ضمنه المشترك، ولا ضمان على الخاص (2).
ومن ذلك: الحق يكون لجماعة يقيمون عليه شاهدًا واحدًا، فمن حلف استحق (3).
ومن ذلك: إذا توجهت يمين على قوم في مال مشترك، فحلف بعضهم، ونكل آخرون قضي لمن حلف بِنَصِيبه، وقضي على من نكل في نَصِيبه.
ومن ذلك: أنَّ من قامت له بينة بحق معين من دين أَوْ عين وهو مدين، فأنكر ولم يقرَّ به لأحد أَوْ أقرَّ به لزيد مثلًا، فكذبه- قضي منه دينه، ولا يثبت الملك للمدين؛ لأَنَّه لم يَدَّعْه (4).
ومنه: ما ذكره العلماء أن من أقرّ بِحُرِّيَّة عبد ثم اشتراه صَحَّ العقد، ولزمه الثمن، وعتق عليه العبد، ويكون هذا التصرف في
(1) القواعد والأصول الجامعة 75، 76.
(2)
الكشاف 4/ 34.
(3)
شرح المنتهى 3/ 557.
(4)
شرح المنتهى 2/ 277.
المبادلة بيعًا في حق البائع، واستنقاذًا في حق المشتري، كافتداء الأسير (1).
وعلى هذا يكون للواقعة الواحدة توصيفان، ولكل تَوْصِيف حكمه على أَنّه قد يقضى في التَّوْصِيفين بدعوى واحدة، وقد تجزأ الدعوى حسب الطلب فيها وما تقتضيه الأصول من جمع الطلبات وتجزئتها.
* * *
(1) المنار مع شرحه للمصنف 2/ 155، الكشاف 6/ 476.