الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث الأصل الثالث
مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص عند التوصيف
ونبيِّن هنا مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص عند التوصيف وتطبيقات على ذلك في عنوانين متتاليين:
مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص عند التوصيف:
إنَّ القاضي -بل والمفتي- وهو يوصف الوقائع لا بُدَّ له من النظر في خصوصيات الوقائع والأشخاص، وما بينهما من فروق مؤثرة، وأوصاف مقررة.
فقد يكون للشخص المتقاضي من مدّعٍ أَوْ مدعى عليه، أَوْ للواقعة المتنازع فيها خاصية تستدعي توصيفًا وحكمًا لا يطبق على نظائرها؛ لوجود وصف مؤثر متعلق بالشخص أَوْ الواقعة استدعى المغايرة في التَّوْصِيف والحكم (1).
(1) الموافقات 4/ 98، المجموع 1/ 88، فتاوى السبكي 2/ 123، نظرية المقاصد 355، فتاوى ورسائل 2/ 21 - 22، وقد أطلق عليه الشاطبي: تحقيق المناط الخاص [الموافقات 4/ 98].
يَدُلُّ على ذلك ما رواه سعيد بن سعد بن عبادة قال: "كان في أبياتنا رويجل ضعيف، فخبث بأَمَةٍ من إمائهم، فذكر ذلك سعد لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اضربوه حَدَّه، فقالوا: يا رسول الله، إنَّه أضعف من ذلك، فقال: خذوا عثكالًا فيه مائة شمراخ، ثم اضربوه به ضربة واحدة، ففعلوا"(1).
ففي ضرب هذا الرجل بعثكال فيه مائة شمراخ بدلًا من مائة سوط مفرقة مراعاة لضعفه؛ لأَنَّه لا يطيق الجلد بالسوط مفرقًا، كما يضرب غيره من الأَصِحَّاء (2)؛ لقوله -تعالى-:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
كما يَدُلُّ على مراعاة خصوصيات الأشخاص والأعيان ما رواه أبو ذر أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يا أبا ذر، إني أراك ضعيفًا، وإني أحبُّ لك ما أحبُّ لنفسي، لا تَأَمَّرنَّ على اثنين، ولا تَوَلَّينَّ مال يتيم"(3)، فقد خص النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر رضي الله عنه بهذا الحكم،
(1) رواه أحمد (الفتح الرباني 16/ 99)، وهو برقم 253 وابن ماجه 2/ 89، وهو برقم 2602، والنسائي في السنن الكبرى 4/ 311، 313، وهو برقم 1/ 7309، وفي النسائي طرق أخرى مرسلة عن أبي أمامة بن سهل، كما رواه أبو داود عن بعض أَصْحَاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (4/ 161)، وهو برقم 4472، وقال ابن حجر في بلوغ المرام 214:"وإسناده حسن، ولكن اختلف في وصله وإرساله".
(2)
نيل الأوطار 7/ 130، سبل السلام 4/ 26.
(3)
رواه مسلم (3/ 1457)، وهو برقم 1826.
وهو نهيه عن الإمارة ولو على اثنين، وعن ولايته على مال اليتيم؛ لأَنَّ أبا ذر رجل ضعيف لا يصلح للقيام بمثل هذه الأعمال، مع أَنَّ الأصل ترغيب عموم الناس في القيام بهذه الأعمال لحاجة الناس إليها، بل لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نفسه يُرَغِّبُ فيها، فقد رغب في الحكم والقضاء بين الناس في أحاديث مُتَعَدِّدَةٍ، منها ما حدث به عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلَّا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا، فسلطه على هلكته في الحق، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها"(1).
كما أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرغب في كفالة اليتيم، ومن ذلك ما حدث به سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنّه قال:"أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وقال بأصبعيه السبابة والوسطى"(2).
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أبا ذر عن تلك الولايات لما رأى به من الصفات التي لا تمكنه من القيام بها (3).
فمراعاة خصوصيات الوقائع والأشخاص أمر مقرر في القضاء والفتيا؛ يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1258 هـ): "القصد من التشريع والأوامر تحصيل المصالح
(1) متفق عليه، فقد رواه البخاري (الفتح 13/ 120)، وهو برقم 7141، ومسلم (1/ 559)، وهو برقم 816.
(2)
رواه البخاري (الفتح 10/ 436)، وهو برقم 6005.
(3)
الموافقات 4/ 100 - 101.
ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلَّا مع ارتكاب أخف الضررين، أَوْ تفويت أدنى المصلحتين، واعتبارُ الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية" (1).
ويقول ابن حجر (ت: 852 هـ): "قال السهيلي: ولا يستحيل أَنْ يكون الشيء صوابًا في حق إنسان وخطأً في حق غيره، إنما المحال أَنْ يحكم في النازلة بحكمين متضادين في حق شخص واحد
…
والأصل في ذلك: أَنَّ الحظر والإباحة صفات أحكام لا أعيان" (2).
ويقول السبكي (ت: 756 هـ) -وهو يتحدث عن التبصر عند تنزيل الحكم الكلي على الواقعة-: "ولهذا تجد في فتاوى بعض المتقدمين ما ينبغي التوقف في التمسك به، ليس لقصور ذلك المفتي -مَعَاذ الله-، بل لأَنَّه قد يكون في الواقعة التي سئل عنها ما يقتضي ذلك الجواب الخاص، فلا يطرد في جميع صورها"(3).
(1) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية 3/ 188.
(2)
فتح الباري 7/ 409.
(3)
فتاوى السبكي 2/ 123.
فائدة: قال النووي: "قال الصيرمي: إذا رأى المفتي المصلحة أَنْ يفتي العامي بما فيه تغليظ، وهو مما لا يعتقد ظاهرة، وله فيه تأويل جاز ذلك زجرًا له كما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة =
فواجب على القاضي والمفتي عند تَوْصِيف الواقعة أَنْ يراعي خصوصيتها في أشخاصها وجميع أحوالها إن كان ثَم ما يقتضي ذلك؛ يقول الشاطبي (ت: 790 هـ) -في خاصية العالم الراسخ-: "إنَّه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص"(1).
كما يجب على القاضي والمفتي بذل الجهد للتعرف على تلك الخصوصيات إن كانت، وتقرير الحكم الملائم لها؛ يقول ابن عابدين (ت: 1252 هـ): "والتحقيق أَنَّ المفتي في الوقائع لا بُدَّ له من ضرب اجتهاد، ومعرفة بأحوال الناس"(2).
ولأجل مراعاة هذا الأصل وغيره كان القضاء جزئيًا لا يتعدى نفوذه غير الواقعة المحكوم فيها، ولا الأشخاص المترافعين (3)؛ وذلك لأَنَّه مُنَزَّل على واقعة معينة لها خصوصيتها سواء في نفس الواقعة، أَمْ الأشخاص، أَمْ أدلة إثباتها، وكان على القاضي الاجتهاد
= له، وسأله آخر، فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكينًا قد قتل فلم أقنطه" [المجموع 1/ 88].
(1)
الموافقات 4/ 232.
(2)
نشر العرف 127 - 128.
(3)
الفواكه البدرية 66، 136، الفوائد الزينية 43، البحر الرائق 6/ 282، شرح الزرقاني 4/ 149، التاج والإكليل 6/ 139، إعلام الموقعين 1/ 38، مجموع الفتاوى 35/ 372.